ورد حديث شريف صحيح يتضمن طلب الرسول –صلى الله عليه وسلم- من الصحابة أن يأتوه بكتاب ليكتب لهم ما يعصمهم من الضلال، أفيمكن أن يكون الرسول قد أراد أن ينص على سيدنا علي –رضي الله عنه– خليفة من بعده، وأنه لما تنازع الصحابة في: هل يأتونه به ليكتب أو لا يأتونه ب


ورد حديث شريف صحيح يتضمن طلب الرسول –صلى الله عليه وسلم- من الصحابة أن يأتوه بكتاب ليكتب لهم ما يعصمهم من الضلال، أفيمكن أن يكون الرسول قد أراد أن ينص على سيدنا علي –رضي الله عنه– خليفة من بعده، وأنه لما تنازع الصحابة في: هل يأتونه به ليكتب أو لا يأتونه به بناء على أنه –عليه الصلاة والسلام– قد اشتد به الوجع، وذلك قبل يوم الإثنين الذي انتقل في صبيحته إلى الرفيق الأعلى ببضعة أيام، أقول: لما تنازعوا في ذلك قال لهم-عليه الصلاة والسلام– دعوني أو: قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع... أفيدونا.....


أخي الكريم! أحمد الله تعالى – إليك، وزادنا جميعا بصرا بالحقائق، وأرانا الحق حقا...

أبدأ بذكر الحديث المسؤول عنه، ثم أسوق من الحقائق ما اتفق عليه جميع المسلمين، ثم أعرض من المواقف والمشاهد ما يجعلنا على بصيرة من الأمر إن شاء الله –تعالى– وأقدم مجموعة من النصائح الهادية إلى الفهم الصحيح، ومنها: أنه لا ينبغي أن يطوى الصدر على معاني مسبقة بين يدي النص، ولا يقبل عليه بنفس مشحونة من مصادر أخرى تكن للصحابة-رضي الله عنهم– البغض، فإن مثل هذه النفس لا تتمكن من الفهم السليم الصافي الذي ينضح به النص، وحال الدراسات الاستشراقية دليل واضح على هذا المسلك، إذ العين الحاقدة لا ترى الحق حقا، وربما ظنت نعومة الحرير مس أفعى، وهذا يرجع إلى إسقاط النفس ما احتجنته على ما هي بصدد فهمه، وهيهات للفهم الموضوعي أن يتأتى مع هذا......

الحديث عن ابن عباس –رضي الله عنهما– قال: يوم الخميس! وما يوم الخميس؟! ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء، فقال: اشتد برسول الله –صلى الله عليه وسلم– وجعه يوم الخميس، فقال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقالوا: هجر رسول الله، قال: دعوني، فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه، وأوصى عند موته ، بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ، ونسيت الثالثة... رواية مسلم والحديث متفق على صحته........

وروى الشيخان عن ابن عباس –رضي الله عنهما-: قال: لما اشتد بالنبي –صلى الله عليه وسلم– وجعه، قال: ائتوني بكتاب..... لا تضلوا بعده. قال عمر: غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا. فاختلفوا، وكثر اللغط، قال: قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع.
هذا، وقد بنى بعض من له توجه وموقف من الصحابة،على هذا مجموعة من المغالطات، يريد بها أن يلحق الطعن بالصحابة ليدعم هواه المسبق، وقرر من جملة ما قرر أن الرسول قد ترك تبليغ أمته ما فيه عصمتها من الضلال، ولم يبلغ شرع ربه لمجرد اختلاف أصحابه عنده، وقد خالف أمر الله إليه "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك" وفُّسر ما أمر بتبليغه أنه خلافة علي –رضي الله عنه– والعجيب أن هؤلاء يذكرون أن أمر خلافة علي قد أعلنه عليه الصلاة والسلام– من قبل في غدير خُم، فكيف يكون كاتما له هنا بعدما أعلنه من قبل.
هم زعموا أنه نص على خلافة علي قبل ذلك، وعندهم أنه –عليه الصلاة والسلام عرج به إلى السماء الدنيا مئة وعشرين مرة، وفي كل مرة يوصى بولاية علي والأئمة من بعده، أكثر مما أوصاه بالفرائض، كما نص على إمامته نصا جليا ظاهرا معروفا قبل ذلك، فلم يكن مع هذا كله محتاجا إلى كتاب يعصم من الضلالة.
ثم كيف عرف هؤلاء أن مضمون الكتاب الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم هو النص على ولاية سيدنا علي رضي الله عنه مع أن الكتاب لم يكتب؟! ترى أطّلعوا عليه بصورة خاصة أم هي رغبة في تجريح الصحابة دفعت إلى تحديدي المضمون؟ ومعلوم أنه يمكن أن يقع خلاف في فهم نص ما، لكن أن يقع الخلاف في مضمون نص لم يكتب أصلاً فهذا من العجائب.
- ثم ألا يمكن أن يكون المراد كتابة نص في الأحكام فيرتفع به الخلاف؟ أو كتابة ما يرجعون إليه عند وقوع الفتن، أو كتابة كيفية تدبير الملك، ومنه إخراج المشركين من الجزيرة، وإجازة الوفود، وتجهيز جيش أسامة، وأكثر العلماء على أنه أراد أن ينص على أبي بكر، ثم ترك اعتمادا على ما علمه من تقدير الله –تعالى- أو كتابة ما يتعلق بالخلافة دون تعيينها بواحد، وإن كان حديث عائشة –رضي الله عنها– قاطعا بالنص على الصديق، وسيأتي.

ثم هو –عليه الصلاة والسلام– ترك كتابة الكتاب وباختياره، ولو استمر على إرادته الكتاب لما قدر أحد أن يمنعه، والأمر لا يعدو أن عمر اجتهد حيث رأى شدة وجع الرسول، ووافقه -عليه الصلاة والسلام– فلم يكتب وإن اختلاف الصحابة في إجابته إلى ما طلب –عليه الصلاة والسلام– ثابت، ولكن سببه في فهم قول الرسول " ائتوني بكتاب.." لا في عصيانه، وقد حمل على ذلك الاجتهاد المسوغ، والقصد الصالح، وكلٌّ مجتهد، وللمصيب أجران، وللمخطئ أجره.

ولعل كتابة الصحيفة التي تضمنت بنود صلح الحديبية شاهد على هذا الفهم، وكان الكاتب عليا –رضي الله عنه وأرضاه– ولما اعترض سهيل عمرو على كتابه "محمد رسول الله" وهو المصالح عن قريش، قال الرسول لعلي: امحه... أي: وليكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، وإباء سهيل كان بدافع: لو كنا نرى أنك رسول الله ما خالفناك، فقال علي: ما أنا بالذي أمحاه! فمحى النبي الكلمة من الصحيفة بيده، بعد ما دُلَّ عليها، فأنت ترى أن علياً قال: والله لا أمحاه أبدا، هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله، بعد ما قال سهيل: لو أنا نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك، فهذا إباء في الظاهر بعدما أمر بقوله "امحه" ولكنه مبرر، فلم يكون ما ثبت عن علي –رضي الله عنه– حقا، وما ثبت عن عمر فيه مطعن عليه ومعارضة، وإن قالوا: هنا حملته محبته للرسول على أن لا يمحو! وعمر حمله على ما فعل في الحديبية نصرته لرسول الله، وإعزاز دينه، إذ توجه بالسؤال لما وقع الصلح، وفيه العود عامه إلى المدينة دون أداء العمرة: ألسنا على حق؟... وقد كان الرسول قد رأى رؤيا سجلها القرآن الكريم، وفيها دخول المسجد الحرام، وما شك أحد قبل الصلح إلا أنها تفسر هذا العام، ولما كان الصلح، وفيه ألا عمرة هذا العام، كان السؤال، وقد أجابه عليه الصلاة والسلام بما يشفي، إضافة إلى أن عمر كان يرى دخول مكة عزاً للمسلمين وإرغاماً للمشركين.... قال النووي تعليقا على موقف عمر –رضي الله عنه-: لم يكن شكاً، بل طلباً لكشف ما خفي عليه، وحثاً على إذلال الكفر بما عرف من تمكنه وقوته في نصر الدين، وكان مجتهداً في هذا، حمله عليه شدته في الحق، والغيرة عليه، وعودهم الرسول على المشورة وإبداء الرأي، وقد نزل بهذا قوله –تعالى– "فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر" وقد شاورهم يوم أحد، وفي الخندق قبل حفره، وبعد تكالب الأحزاب، وأراد أن يدفع شر بعضهم بمصالحته على بعض ثمار المدينة.
وهنا يمكن أن نقول: إذا خلا القلب من الكراهية صفا الفهم من آفات الحكم الجائر، وعموما فإن الفاروق لما رأى اتفاق الرأيين الرسول والصديق يوم الحديبية أمسك، وعذره الرسول عليه الصلاة والسلام– لما يعلم من حسن نيته وصدقه، وما بدر من الصحابة يوم الحديبية حين دعوا إلى التحلل من العمرة كان بحضور الرسول، والوحي ينزل، فهل ذمهم الله بذلك؟ ولا يقر الله مخلوقاً على باطل، أو هل أنكر الرسول عليهم إنكار تأنيب، والرسول لا تأخذه في الحق لومة لائم؟!! إنه في طريق العودة نزل قوله –تعالى– "لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأ نزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزاً حكيماً" كانوا قرابة ألف وأربعمئة، فهل ترى في الآيات ما يسوغ لمؤمن بعدها أن يشكك بما في قلوب الصحابة، وهل قوله -تعالى- " فأثابهم " يعنى: عاقبهم، وبم؟ بالفتح القريب والمغانم المأخوذة؟ ثم على الطريق قال –عليه الصلاة والسلام– "لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها" رواه مسلم، وهذا إضافة إلى الرضا والسكينة والبشارة بالجنة، والنجاة من النار، وإن كان عثمان لم يبايع وقتها فلأنه كان موفداً إلى أهل مكة من قبل الرسول وقد وضع الرسول يده موضع يده، وقال: هذه عن عثمان، بعد هذا ما قيمة الطعن فيهم إلا رد على الله وعلى رسوله، وعلى التاريخ؟! دعاني الإطالة هنا أني قرأت لبعضهم كلاماً فظاً في عمر تعليقا على موقفه في الحديبية، واعتبره حامل لواء المعارضة، وقد تقايأ هذا الفهم من بيئته التي شحنت بالآفات النفسية، ومنها أكل الدنيا بالدين...
وحمل الصحابة من الكتاب الذي أراد الرسول أن يكتبه على أنه ليس على سبيل الوجوب، بل من باب الإرشاد إلى الأصلح البيّن، ورؤية كفاية كتاب الله، إذ كل هذه السنين من الوحي، وبعد قوله –تعالى– "اليوم أكملت لكم دينكم" ظاهرة ومسوغة ليقال: حسبنا، بدافع الشفقة على الرسول مما يلحقه من أمر الكتابة على شدة المرض، وقد نص على هذا الحال قول عمر الفاروق "قد غلبه الوجع" مما يعد من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره.
إنهم قد عهدوا أن من اشتدّ عليه الوجع قد يشتغل به عن تحرير ما يريد.
وهنا لا بد من ذكر ما قاله العلماء في بعض الألفاظ التي جاءت بها الروايات تحريرا للصواب...
قال عمر: عندكم كتاب الله... حسبنا كتاب الله، وباطل ما اتهم به أنه قال: إنه هجر.. أي: لا يعي.. والرواية هذه فيها قالوا: ما شأنه أهجر "ورواية "هجر" دون استفهام، والأولى: أرجح من الثانية، ويلاحظ أن القائل جماعة ، وليس واحداً دل عليه التعبير: "قالوا" وقال الدهلوي: من أين يثبت أن قائل هذا القول عمر، مع أنه وقع في أكثر الروايات "قالوا" بصفة الجمع، وعمر قال: غلب عليه الوجع .. ثم نص العلماء على أن الاستفهام "أهجر" جاء على سبيل الإنكار على من قال " لا تكتبوا " مع اعتقاد عصمة النبي من الخطأ في التبليغ في كل أحواله، وليس "أهجر" لشك عرض لهم في صحة قوله زمن مرضه، بل إنكار من بعضهم على من توقف في إحضار الكتف والدواة، وتلكأ عنه. أو: "أهجر" على معنى أنا لم نفهم كلامه بسبب ضعف ناطقته بسبب الحمى. وبحة الصوت لغلبة اليبس من شدة الحرارة. على أن الواضح بناء على صيغة الجمع أنها قول من كان حديث عهد بالإسلام، على أنها قيلت بحضور الصحابة، ولم ينكر على قائلها، ولم يقولوا: زائغ عن الحق، ولم يؤثموه، إذ فهموها على وجه لا يضر، وهم أدرى بمرامي الكلام وخطره ممن تعلم العربية من غير العرب، ولو كان فيها ما يسيء لبطشوا بالقائل، أو نصحوه على أقل تقدير.
وأذكر هنا ببدهيات، كقوله –تعالى– في الرسول "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم"... فكان -صلى الله عليه وسلم- حريصا على هداية الأمة، وتبصيرها مما يسعدها، ويقيها من الشرور، ولم يأل جهداً في إيصال النفع الدنيوي والأخروي للناس قاطبة، وأنه من المعلوم من الدين بالضرورة أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ولم يكتم ذرة مما أمره الله بتبليغه...
وعليه، فليس في الكتاب الذي طلب من الصحابة أن يأتوه به ما يتعلق بعصمة الأمة، ورفع الاختلاف فيما بينها، ولو كان لما أخّر هذا البلاغ إلى ذلك الوقت الضيق، والساعة الحرجة التي اشتد فيها وجعه، ولو افترضنا أنه أخّره لما تركه –على الإطلاق– لمجرد الاختلاف عنده، الاختلاف الذي ظهر في تبادل الآراء: هل يأتون بالكتاب المطلوب ليملي عليهم، وهو في حالة وجعه الشديد، أو يؤخر عسى أن يستريح من عناء الوجع؟
ونحن نعلم يقينا –في ثنايا السيرة– أن الصحابة ربما راجعوه في بعض المسائل مجتهدين، فما كان يترك أمر ربه لقولهم، وقد فسخ الحج إلى عمرة في حق من لم يسق الهدي "في حجة الوداع" وكان ما كان في صلح الحديبية حيث وثق الصلح مع قريش، وأمر الصحابة بالتحلل من العمرة، وفي تأمير أسامة حين وجهه إلى مؤتة حيث استشهد والده زيد –رضي الله عنه– وحتى في كتابة نص الصلح كانت مراجعات، وعلي –رضي الله عنه– كان الكاتب يومها، وفي المنزل يوم بدر لما عرض الحباب بن المنذر له، وسأل الرسول عنه: أمنزل أنزلكه الله أم الرأي والحرب و..."
ثم لو كان تركه للتنازع عنده لمصلحة رآه حينها، فلم لم يكتبه بعدها، وقد عاش عدة أيام أخرى؟ إذ كانت وفاته –عليه الصلاة والسلام– يوم الإثنين، وحادثة الكتاب يوم الخميس قبله؟!

وقد قال من أراد أن يوظف النص في خدمة هواه، والطعن في الصحابة: خشي أن لا يقبلوه منه؟!! وهذا التعليل الفج ظاهر في الطعن، إذ بني على الاعتقاد بأن الصحابة الذين هم تربية الرسول خلال سنين الدعوة، وهم الذين بلغوا دين الله، ووقفوا في وجه الردة المدمرة، يرفضون أمر الرسول؟ ومجرد الجرأة على حملة الإسلام بأقل من هذا نكشف عن أن المسألة ليست التباساً قد يقع فيه الإنسان، أو سوء فهم يمكن أن يصوب، بل حقد دفين وإغارة على الإسلام الذي دحر نارهم المعبودة ألف سنة وأطفأها إلى الأبد.
ثم نقول بهذا التعليل: إن الرسول لا يضره أن يرفض ما يبلغه، لأن مهمته منحصرة في البلاغ ، ليس أكثر....
ثم حيث ثبت أنه –صلى الله عليه وسلم– لم يكتب هذا الكتاب، علم أنه ليس من الدين الذي أمر بتبليغه، لاستحالة أن يكتم شيئاً أمر بتبليغه، وعلى افتراض وقوع ذلك جدلاً كيف تسنى للطاعن معرفة المضمون مع أنه لم يكتب، أم أنه جاءته رسالة عبر الهاتف تبصره،وإذا جاز له أن يتأول، فلم لا يجوز لغيره أن يفعل ذلك ، علما أنه لا نص هناك إذ معلوم أنه لم يكتب، فهو تأويل للعدم، وما أبعده عن الصواب، وما ألصقه بالهوى الضال.
قوله – عليه الصلاة والسلام - : "قوموا عني .." ولم يثبت أنه استدعى بعد ذلك ذلك الكتاب
ليكتبه كما هو الحديث الذي بين أ يدينا.
ثم هل التنازع في ذلك المجلس قد تفرد به المتنازعون، ولم يسبق بمماثل؟ وهل مثل هذا التنازع يؤثر في مهمة التبليغ التي قام بها -عليه الصلاة والسلام- طوال حياته الدعوية مذ تلقى الرسالة من الله -تعالى– وأمره الله بها بقوله: "يا أيها المدثر قم فأنذر" ؟
من الثابت أنه قد بلغ في أحرج الأوقات، وأشد الأزمات، حين كان وحيداً، لا ناصر له من الخلق، إذ نزل قوله -تعالى- "وأنذر عشيرتك الأقربين" فصعد الصفا، ونادى بطون قريش بطناً بطناً، ثم أعلمهم بالمهمة التي أرسل بها، وكان وقتها من أبي لهب ما كان. ونزل قوله -تعالى- "فاصدع بما تؤمر" فقام على حلق الملأ، وفيهم عتاة قريش وطغاتها: أبو جهل، وعقبة، وأبي بن خلف، وأخوه أمية، والأخنس.. فبلغهم. وقد قرع على أبي جهل بابه نصرة للإراشي ، وأمره أن يقضيه حقه الممطول، وقد استخذى أبو جهل، وذل، وقضى الإراشي حقه، وقد حلف أبو جهل ليرضخن رأس الرسول إذا رآه ساجداً، وقد رآه ساجداً، فحمل صخرة وجاء ، لكنه ولى مذعوراً عنه، وقد نشف دمه، وفي يوم بلّغ العباس ما عزم عليه أبو جهل، حيث قال: إن لله عليّ إن رأيت محمداً لأطأنّ على عنقه، وما أن أخبر الرسول بذلك حتى خرج من البيت غضبان، فقال العباس: يوم شر نبشته، واقتحم من الحائط على المسجد، وقام عند الكعبة يصلى، وقرأ سورة " اقرأ " فقالوا: يا أبا الحكم! محمد يصلي، وبلغ الرسول السجدة "كلا لا تطعه واسجد واقترب" وسجد، ورجع أبو جهل خائباً خائفاً مهزوزاً عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ومرة كان في الطواف، وقد اكتنفه عثمان والصديق، فمروا بأبي جهل، فقال يعلن كفره: والله لا نصالحك ما بل بحر صوفة، و أنت تنهى أن نعبد ما يعبد آباؤنا! فقال الرسول: إني كذلك، وفي الشوط الرابع من الطواف وثب أبو جهل يريد أن يأخذ بمجامع ثوب الرسول، فدفعه عثمان في صدره، فوقع على استه، ووثب أمية بن خلف، فدفعه الصديق، ودفع الرسول الواثب الثالث عقبة، ولما انتهى من الطواف قال لهم: أما والله لا تنتهون حتى يحل الله بكم عقابه عاجلاً..
ومشهور قوله لعمه أبي طالب حين جاءه وفد قريش وهددوا وأوعدوا وطلبوا منه أن يكف ابن أخيه الرسولِ عن دعوته ، فقال لعمه: "والله يا عم لو وضعوا الشمس بيميني والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه" وأشير باختصار إلى رحلة الإسراء وكيف بلغها وهو يعلم موقف قريش منه تكذيباً له بما جاء به من الله، وإلى رحلة الطائف، وما كان من أمره هناك، هذا، بل وكل حياته الدعوية تبليغ لأمر الله دون هياب أو وجل، وقيام بوظيفة الرسول المختار الذي لا يخشى في أمر الله لومة لائم، أفيبلّغ على هذه الصورة ثم يمسك حين استقر أمر الدعوة في أواخر حياته فيها؟؟...
هذا في أمر التبليغ، أما في أمر التنازع البّناء ففي قوله -عليه الصلاة والسلام- للصحابة عقب هزيمة الأحزاب "لا يصلّينّ أحد العصر إلا في بني قريظة"، فأدركت الصحابة الصلاة في الطريق، فصلى مجموعة في الطريق، وأرجأت مجموعة الصلاة الى بني قريظة، بناء على الحديث، والذين صلوا فهموا أن المراد من النهي عن الصلاة في الطريق الإسراع ليس إلا ، لا عين الصلاة، ولما وصلوا بني قريظة، وعلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بما كان، لم يعنف أحداً منهم، وأقرّ فهم من صلى على الطريق، وفهم من أخّر،فتبين أنه اختلاف في فهم النص، لاتنازع مشاكسة للآمر.
ولما جاء وفد تميم، قال الصديق للرسول: أمّر القعقاع بن معبد، وقال عمر: أمّر الأقرع ابن حابس، فقال الصديق له: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، وارتفعت الأصوات بذلك، وهذا كله في إطار التربية الربانية لأناس سيقودون الأمة، وينشرون الإسلام، وتعترضهم أمور يحتاجون معها إلى إعمال الرأي والاجتهاد ، وحديث معاذ –رضي الله عنه- لما بعثه الرسول إلى اليمن، وقال له: بم تقضي؟.. إلى أن قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فقال الرسول: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضي الله ورسوله....
كان عليه الصلاة والسلام يأمر أحياناً بشيء، أو يأذن به، ويتراجع عنه لمصلحة يراها، فينسخ الله ذلك الأمر الأول، مثل: أمره بكسر الأواني التي فيها لحوم الحمر، فقالوا: ألا نريقها؟ قال: أريقوها...
ولما أذن بنحر النوق التي يركبونها، لما اشتد عليهم العطش في غزوة تبوك، قال عمر: يا رسول الله! إن أذنت في ذلك نفد ظهرهم، ادع الله لنا، فدعا –عليه الصلاة والسلام– فأغيثوا... وهذا كما قلت لون مشاركة أرادها الرسول لتتمكن الأمة بعده من إدارة العالم كله، وإن كنت لا أضبط النصوص من مصادرها لكني لم أبعد عما هي عليه فيها، وقصة الأنفال نزل بها آيات، حيث تنازعوا في الأنفال يوم بدر، لمن؟ فنزل قوله تعالى "يسألونك عن الأنفال" والمتتبع لهذه المواقف يجدها كلها مواقف تربوية يبادر الوحي إلى تسديدها، وردها إلى وجهها الصحيح، أو يؤكدها، كل هذا في إطار تربوي نفيس.
وبه يتبين أن الاختلاف وقت اشتداد وجعه –عليه الصلاة والسلام– كان مسبوقا بمواقف هي أعظم فيما بدا، وأن ما وقع في مرضه لما دعا ليكتب لهم أهون، وله ما يبرره كما سنبين.
أكرر أنّ تركه عليه الصلاة والسلام– الكتاب دليل على أنه ليس من الدين الذي أمر بتبليغه، لاستحالة كتم شيء عليه، وقد أنزل الله تعالى– عليه في حجة الوداع قبل قصة الكتاب هذا بقليل،قوله: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي" فهل فسر وهو في عرفات ما تضمنه النص، بناء على ما ذهب إليه المخالف من أنّ المقصود بالإكمال خلافة علي رضي الله عنه ولو كان كذلك لقاله في أسماع عشرات الآلاف الذين تلقوا خطبته الجامعة هناك، وقد عرض فيها خطوطاً عريضة للرسالة، وحذر من الاختلاف الماحق، ونص على مجموعة من حقائق الإسلام، كذلك جاء في الحديث: "إني تركتكم على مثل البيضاء ، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك". وما وقع من خلاف بعدها ليس لأنه لم يكتب، ولم يبين في الكتاب فيمن تكون الخلافة من بعده.
قال ابن تيمية: لم تكن كتابة الكتاب مما أوجبه الله عليه أن يكتبه، أو يبلغه في ذلك الوقت، إذ لو كان لما ترك ما أمره الله به، ولكن ذلك مما رآه مصلحة لدفع النزاع في خلافة أبي بكر، ورأى أن الخلاف لابد أن يقع. "بتصرف قام على الاختصار دون مس الجوهر"
ورجوعاً إلى قصة الكتاب المزمع كتابته، نجد أنها جاءت مبينة في الصحيحين، عن عائشة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم– في مرضه، "ادعى لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا، فأني أخاف أن يتمنى متمن، ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر...." واذكر هنا بقضية الإمامة في الصلاة التي لا ينكرها المخالف، ودلالتها على تقديم الصديق على الصفوف، ومهما حاول الخصم التخلص من سطوة النصوص، وظهورها، والتخلص من بطشة "ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" إذ العبارة صريحة في أن من يأبى أبا بكر، فقد أدخل نفسه في جحر يختنق فيه الإيمان في صدره، أقول مهما حاول التملص والتخلص، فإن رياح الحقيقة كفيلة بأن تعري رأسه المدفون في رمال الإعراض والرفض والنكاية وشق عصا المسلمين ... إنك واجد في حديث أم المؤمنين أن الرسول قد عزم على أن يكتب الكتاب الذي ذكر لعائشة، وهو نص في المضمون، لا ظن تثيره تطلعات في الصدور مخفية، توجه النصوص حسبما تحب، ولكن لما رأى أن الشك قد وقع، علم أن الكتاب لا يرفع الشك، فلم يبق فيه فائدة،وعلم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه، كما قال: "ويأبى الله والمؤمنون" ( انظر منهاج السنة 6/ 316 ).
وعلمه –صلى الله عليه وسلم– بهذا، من مثل علمه بنزول السيد المسيح –عليه السلام– علامة من علامات الساعة الكبرى، وعلمه بدور الحسن بن علي رضي الله عنهما الإصلاحي، كما ثبت بيانه بالحديث الصحيح، ويمكن أن نجعل هذه الرؤية رؤية قدرية، ترصد تصاريف الأقدار، وتبلغ ما أذن بتبليغه لحكم كثيرة، ليس منها رفع القدر نفسه، لأنه واقع، والواقع لا يرفع، كقدر الدجال مع قدر المهدي، ونزول المسيح، والفتن التي أخبر، وقد سأل عليه الصلاة والسلام– ربه –تعالى– لأمته ثلاثا، فأعطاه اثنتين، ومنعه واحدة، أن لا يهلكهم بسنة عامة، فأعطاه إياها، وألا يسلط عليهم عدواً من غيرهم، فأعطاه إياها، وألا يجعل بأسهم بينهم ، فمنعه إياها.
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما– لما ظهر أهل الأهواء من الخوارج والرافضة ونحوهم: "الرزية كل الرزية ما حال بين الرسول وأن يكتب الكتاب، فإنها الرزية في حق الذين شكوا في خلافة أبي بكر".
وكان ابن عباس يفتي بكتاب الله والسنة، وبما أفتى أبوبكر وعمر، وهذا ثابت من حديث ابن عيينه عن عبد الله ابن أبي يزيد عن ابن عباس، ومن حاله –رضي الله عنه– يعرف تفضيله لأبي بكر وعمر على علي رضي الله عنهم.
وما أخبر به من مفاتيح البلاد التي يفتحها الله على أصحابه من بعده، والتعبير عن ذلك بعبارة تتطلب قلبا واعيا خالياً من الغل والحسد، إذ قال: أعطيت مفاتيح... "والتعبير بالإعطاء مسندا لضمير الفاعل "التاء" وهو عائد عليه صلى الله عليه وسلم مع أن من استلم مفاتيح بيت المقدس مثلاً هو الفاروق رضي الله عنه– يتضح بأن الصحابة كانوا على المسار اللاحب الذي مهده لهم الرسول، والتزموه أروع التزام..
وربما قال المخالف: لم قال "لن تضلوا بعدي" لو لم يكن أمراً دينياً؟ وهو سؤال وجيه، نجد الجواب في أن للضلال معاني ، ومعناه هنا هو عدم الخطأ في تدبير الملك، وهو إخراج المشركين من الجزيرة العرب، وإجازة الوفد، وتجهيز جيش أسامة، لا الضلالة والغواية في الدين، إذ إنه ترك في الأمة ما فيه عصمتها من هذا الضلال وتلك الغواية، وهو كتاب الله تعالى، ويكفي أن مذهب الخصم يقتضي أن ينسب للرسول المعصوم أنه لم يبلغ شرع ربه لمجرد اختلاف الصحابة عنده، وأنه قد خالف الأمر "بلغ ما أنزل إليك من ربك" وفي هذا من الشناعة ما فيه، لكن الهوى أعمى يضل الطريق!! .
ولنا هنا لمسات لابد من أن نسجلها نبتغي إحقاق الحق، وتصويب مسار من شذ عنه، وإن كنا ندعو أمام سيرة السلف إلى اعتماد القاعدة الإسلامية الراسخة: احمل أمر أخيك على أحسنه، فكيف إذا كان أمره مشرقا كالشمس في النظافة والاستقامة، ونصرة الحق.... وهذه مجموعة من الحقائق عسى أن تنير الصدور فتنزح عنها الظلمة.
لم يكن الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما– في الخلافة، ومن اختلف مع علي كطلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم جميعا ما نازعوا علياً فيها، ولم يدع أحد منهم، أو من غيرهم أنه أولى بالخلافة بعد مقتل عثمان– من علي ، وكانوا يرون أنه رضي الله عنه– أفضل من بقي، وأقروا له بالفضل.




أصل الخلاف المطالبة بدم عثمان، وقتل قتلته قصاصاً، فالمطالبون رأوا التعجيل بالقصاص، وعلي لم ينازع في أن قتل عثمان كان ظلماً، ولا في وجوب القصاص، لكنه رأى التأجيل، حتى تهدأ الأوضاع، ويستتب له الأمر، والقتلة كثيرون، وقد تفرقوا في الأمصار، وطائفة كبيرة منهم في المدينة بين الصحابة. فالخلاف في تعجيل القصاص من القتلة أو تأخيره، مع الاتفاق على وجوب التنفيذ، ومع هذا الاختلاف لم يتهم بعضهم بعضاً في الدين، وكل فريق يرى الآخر مخالفه مجتهداً متأولاً، ويعترف له بالفضل في الإسلام، والصحبة للرسول عليه الصلاة والسلام– والأخبار الصحيحة دلت على ذلك، وتبرئ ساحة الصحابة مما افتري به عليهم. ومن شناعات أعداء الصحابة أن أحدهم نزل كل الآيات في المنافقين على خيار الصحابة رضي الله عنهم ولم يخرج إلا أربعة!!! وهو –والله أولى أن تنزل عليه، وتكون فاضحة لما فيه..
يقيناً لم يكن علي رضي الله عنه ينازع مخالفه في وجوب القصاص من القتلة، لكن قتلهم أمسى متعذراً في أول عهده، وقد اجتمع إلى علي مع عدد من الصحابة كل من طلحة والزبير، فقالوا: يا علي! إنا قد اشترطنا إقامة الحدود، وإن هؤلاء القوم قد اشتركوا في دم هذا الرجل، وأحلّوا بأنفسهم، فقال: "يا إخوتاه! إني لست أجهل ما تعلمون، ولكني كيف أصنع بقوم يملكوننا، ولا نملكهم، هاهم أولاء قد ثارت معهم عبدانكم، وثابت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعاً لقدرة على شيء مما تريدون ؟ قالوا: لا ، قال: فلا والله لا أرى إلا رأياً ترونه إن شاء الله." إنه اعتذر إليهم بأن هؤلاء لهم مدد وأعوان، وقال ابن كثير: وبأنه لا يمكنه ذلك يومه هذا. وبه يتبين أن علياً رضي الله عنه لم يكن متمكناً من قتل القتلة إلا بفتنة تزيد الأمر شراً،ومعلوم أن دفع أفسد الفاسدين بالتزام أدناهما أولى من العكس... على أن القتلة قد أتوا عسكراً، وكان لهم قبائل تغضب لهم، ولما سار طلحة والزبير إلى البصرة، ليقتلوا قتلة عثمان قامت بسبب ذلك حرب قتل فيها خلق!!.
إن اجتماع الصحابة بعد مقتل عثمان على مبايعة علي –رضي الله عنه– وفيهم طلحة والزبير ثابت، ومما قالوا: إن هذا الرجل قد قتل، ولابد للناس من إمام ، ولا نجد اليوم أحداً أحق بهذا الأمر منك، والخطاب لعلي، ولا أقدم سابقة، ولا أقرب من رسول الله –صلى الله عليه وسلم فقال: لا تفعلوا، فإني أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً! فأين هذا من مئة وعشرين معراجاً إلى السماء الدنيا والوصايا فيها.
فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك، قال: ففي المسجد، فإن بيعتي لا تكون إلا عن رضا المسلمين. وقال ابن عباس: كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه، وأبى هو إلا المسجد، فلما دخل دخل المهاجرون والأنصار فبايعوه، ثم بايعه الناس. وهذا في الطبري بسنده إلى محمد بن الحنفية. فأين هذا من تحريف الخلاف إلى صراع أسريّ قبلي شائن؟ وعن بشير العابدي: كنت بالمدينة حين قتل عثمان، واجتمع المهاجرون والأنصار، وفيهم طلحة والزبير، فأتوا علياً، فقالوا: يا أبا الحسن! هلم نبايعك... ولم يثبت بنقل صحيح ما جاء في نقل بعض الروايات أنهما –أي: طلحة والزبير بايعا مكرهين، وثبت خلافه....

وثم شاهد يجلي القضية لمن أراد الحق، ويؤكد على أن معاوية لم ينازع في الخلافة، بل في قضية القصاص وحدها، حيث سئل: أنت تنازع عليا أم أنت مثله؟ قال: لا والله، إني لأعلم أنه أفضل مني ، وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً، وأنا ابن عمه، والطالب بدمه، فأتوه، فقولوا له، فليدفع إليّ قتلة عثمان، وأسلم له، فأتوا علياً فكلموه، فلم يدفعهم إليه، أي: القتلة. وأنت ترى أن من أتى معاوية توجه إلى علي يحمل الرسالة بتسليم القتلة، ولم ينكروا أن له الحق بالمطالبة بالقصاص، وأن ترك القتلة يسرحون إعاثة في الأرض شر مستطير،وقد أغرى بقتل علي –رضي الله عنه– من بعد، وأن من يجعل قميص عثمان حجة تستر وراءها رافعوه، إنما يحكم على الدوافع في الصدور، والتي لا يحيط بها إلا علام الغيوب، أو هو إسقاط نفوس تحترف الخداع في حياتها، وتريد على هواها ألا يطالب أحد بحقه، مهما كان قوياً، وهل هناك أخطر من قتل النفس، وقد شرع له القصاص، وقد قال فيه الله تعالى : "ولكم في القصاص حياة". والمطالبة من حيث هي مشروعة، لا شك فيها، ولكن التوقيت هو الذي أخذ على المطالب، علما أن علياً رضي الله عنه لم ير وهو على صواب كامل– إمكانية التعجيل، وإلا قامت فتنة، الله أعلم بمداها، وورد أن أم حبيبة رضي الله عنها لما قتل عثمان أرسلت إلى أهله، أرسلوا إلي بثياب عثمان، وبالخصلة التي نتفت من لحيته، ثم دعت النعمان بن البشير، فبعثته إلى معاوية ، فمضى بذلك، وكتبت إلى معاوية، فصعد المنبر، وجمع الناس، ونشر القميص،وذكر ما صنع بعثمان، هذا ابن عمك قال الناس وأنت وليه، ونحن المطالبون معك بدمه"
وهذا ن الصحابيان أبو الدرداء وأبو أمامة رضي الله عنهما– دخلا على معاوية، فقالا له: يا معاوية! علام تقاتل هذا الرجل؟! والله إنه أقدم منك ومن أبيك إسلاماً؟ وأقرب منك إلى رسول الله، وأحق بهذا الأمر منك؟! فقال: أقاتله على دم عثمان، أنه آوى قتلته، فاذهبا إليه، فقولا له، فليُقدنا من قتلة عثمان، ثم أنا أول من أبايعه من أهل الشام... أهناك أوضح من هذا البيان للدافع الذي جعل معاوية لا يبايع عليا مع من بايع، وإن كنا لا نسلم له به، باعتبار الحكمة والدراية بالأوضاع.
ثم نقل في البداية والنهاية لابن كثير ( 7 / 265 ) أن علياً طلب من معاوية أن يدخل في البيعة، ويحاكمهم إليه، فأبى معاوية، وطلب علي هنا– عين الصواب، فيمن يطالب الحاكم بالقصاص، إذ عليه أن يقر به حاكماً، ويدعي بعد ذلك على من يشاء ... وثم روايات كثيرة مشهورة أن معاوية ما نازع علياً في الخلافة ألبته.
وقد قال الجويني: إن معاوية، وإن قاتل علياً، فإنه لا ينكر إمامته، لا يدعيها لنفسه، وإنما كان يطلب قتلة عثمان، ظانّاً أنه مصيب، وكان مخطئاً. وهذا كله رد على من زعم أنه لو كتب الرسول صلى الله عليه وسلم الكتاب لما وقع الخلاف في الخلافة بين علي ومعاوية، ثم إن ابن حجر الهيثمي قال: ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن ما جرى بينهما من الحروب، لم يكن لمنازعة معاوية لعلي في الخلافة، للإجماع على أحقيتها لعلي ، فلم تهج الفتنة بسببها، وإنما هاجت بسبب أن معاوية ومن معه طلبوا من علي تسليم قتلة عثمان إليهم، لكون معاوية ابن عمه فامتنع علي، ولا يغفل هنا عن الدسيسة المحرضة على الشر والاصطياد في كل محفل ومناسبة، ولا تزال إلى اليوم تنفث سمومها في الأمة.
وقال ابن تيمية: "ومعاوية لم يدع الخلافة، ولم يبايع له بها حين قاتل علياً، ولم يقاتل علياً على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة، ويقرون له بذلك، وكان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه: إذ ليس معاوية كفئاً لعلي بالخلافة، فإن فضل علي وسابقته وعلمه ودينه وشجاعته وسائر فضائله كانت عندهم ظاهرة معروفة...
ولم يتنازع الصحابة في الخلافة، ومن انضم إلى معاوية في المطالبة ما كانوا يفضلونه على علي... وورد أن معاوية كان يكتب فيما ينزل به إلى علي يسأله عن ذلك، فلما بلغه قتله قال: ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب. وعجباً أن هؤلاء الذين مازالوا يحملون راية الخلاف، ووسعوه حتى أدخلوا فيه بعض العقائد، لا يلتفتون إلى الصور الإيجابية، وما أكثرها، ويختلقون روايات ما أنزل الله بها من سلطان ، ويعكفون على النصوص يحرفونها عن مسارها، ويحشونها بتخيلاتهم الفجة.....
لعلهم ما سمعوا أن معاوية لما سمع بعض صفات علي وكفت دموعه على لحيته ما يملكها، وجعل ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء، فقال: كذا كان أبو الحسن رحمه الله.

وقد كان ذلك لما قال لضرار الصدائي: يا ضرار! صف لي علياً، قال: أوتعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال لا أعفيك ، قال: أما إذا لابد من وصفه: فكان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، وكان غزير الدمعة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا، وقربه منا، لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين ويقربهم، ويحب المساكين، ولا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله وغادرت نجومه، قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين ويقول: يادنيا غري غيري! إلي تقربت، إلي تشوفت، هيهات هيهات، بتتّك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك حقير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق....فبكى معاوية، وقال: رحم الله أبا الحسن، كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟! قال حزن من ذبح واحدها في حجرها... قتال علي رضي الله عنه لمخالفيه صواب، لأنه بويع خليفة بعد عثمان، ولو كان هناك عهد له من الرسول صلى الله عليه وسلم في الغدير، أو غيره، لقاتل الذين جحدوه بداية، إذ كيف يقاتل ببيعة الناس له، ولا يقاتل بنص رسول رب الناس على ولايته كما رأوا؟ وإذا كان القتال وقتها تراق به الدماء، أوليس القتال بعد أريقت به الدماء، أكان يوظف التقية وحاشاه هناك، وهنا أسفر، وهو الذي لم تستتر شجاعته لحظة واحدة طوال حياته؟ هزات عقلية ونفسية لعلها تعيد الأمور إلى نصابها الصواب.
هناك من لا يتورع عن إضافة عبارة ضمن حديث، ثم يجعلها منصة للطعن، مثاله: الخلاف في بعث أسامة رضي الله عنه وفي الحديث "جهزوا جيش أسامة" فقال قوم: يجب علينا امتثال أمره، وأسامة قد برز، وقال قوم: قد اشتد مرض الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يسع قلوبنا المفارقة، وجاء القوم ليضموا عبارة "لعن الله من تخلف عنه" فصار النص بشطرين "جهزوا جيش أسامة،و لعن الله من تخلف عنه" والفقرة الثانية كذب، وليس لها إسناد، على أنه لم يمتنع أحد عن جيش أسامة، بل أسامة توقف في الخروج لما خاف أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم وقال: كيف أذهب و أنت هكذا؟! أسأل عنك الركبان؟!! فأذن له في المقام، ولو عزم عليه في الذهاب لأطاعه، ولو ذهب لم يتخلف عنه أحد، ودون لفظ اللعن، وقد ذهبوا جميعاً بعد موته عليه الصلاة والسلام لم يتخلف أحد بغير إذنه، وإن الصديق لما ودع أسامة استأذنه في إبقاء عمر، فأذن، ولما سأل الصحابة الصديق تأخير بعث أسامة لشدة الحال قال: والله لا أحل راية عقدها رسول الله.
لو أراد الرسول استخلاف علي إماماً لأمره على الحج، على أبي بكر وعلى من معه، ولو قال: هذا هو الأمير عليكم والإمام بعدي، لم يخالف أحد ، فعلي رضي الله عنه لم يكن مبغضاً من أحد من الصحابة، ولم يكن نكرة حتى يخشى من تعريفه.



موقعة الجمل كانت من تدبير القتلة، وأدخلت الأمور في تعقيد شديد، فكان بهذا كله أمر القصاص غير مقدور عليه، لا من علي، ولا من غيره، وقد انشغلت الأمة بعد ذلك بتسكين الفتنة ، ورأب الصدع. علي رضي الله عنه قام بتفقد القتلى بعد الجمل، ورأى طلحة بن عبيد الله مقتولاً، فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: رحمة الله عليك أبا محمد! يعز علي أن أراك مجدولاً تحت النجوم، ثم قال: إلى الله أشكو عُجَري وبُجَري _ أي همومي وأحزاني ... والمجدول: الملقى على الأرض قتيلاً.
هذا يؤكد أنهم رضي الله عنهم مع الاختلاف، لم يكن يتهم بعضهم بعضاً في الدين..


لما جاء ابن جرموز قاتل الزبير، ومعه سيف الزبير، لعله يجد عند علي حظوة، استأذن فقال: لا تأذنوا له، وبشروه بالنار، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بشر قاتل ابن صفية بالنار. وقال لما رأى سيف الزبير: طالما فرج الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد الجمل ذهب إلى عائشة فقال: كيف أنت يا أمه؟ قالت: بخير، قال: يغفر الله لكِ ، قالت: ولكَ ،فأين هذا القميء في القرن العشرين يتحدث عن السيدة عائشة رضي الله عنها وما أدري لِمََ يبغضها هذا البغض _ فيقول: هي أمكم وليست أمه.
لما أرادت عائشة –رضي الله عنها أن ترتحل من البصرة، جهزها علي رضي الله عنه بكل شيء ينبغي لها، من مركب ومتاع، وأخرج معها كل من نجا ممن خرج معها إلا من أحب المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات، وقال: تجهز يا محمدُ _ فبلّغها... هذا في الطبري.
ولما كان اليوم الذي ترتحل فيه، جاءها حتى وقف لها، وحضر الناس، فخرجت على الناس، وودعوها، وقالت: يا بني ! تعتب بعضنا على بعض استبطاء واستزادة. فلا يعتدّن أحد منكم على أحد بشيء بلغه من ذلك إنه _ والله _ ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه عندي على معتبتي من الأخيار... وقال علي: يا أيها الناس ! صدقت _ والله _ وبرت، ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة.
ومن المشاهد أن عمارا أقبل حتى حاز الزبير يوم الجمل بالرمح، فقال: أتقتلني يا أبا اليقظان! قال: لا يا أبا عبد الله!.
وسمع علي يوم الجمل أو يوم صفين رجلاً يخشن في القول ، فقال: لا تقولوا إلا خيراً، إنما هم قوم زعموا أنا بغينا عليهم، وزعمنا أنهم بغوا علينا، فقاتلناهم، وسألوه عمن قتل من أصحاب معاوية: ما هم؟ قال: هم مؤمنون. ومر على رجل يتوكأ على الأشتر في صفين، فإذا حابس اليماني، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا حابس اليماني معهم يا أمير المؤمنين عليه علامة معاوية...
أما والله لقد عهدته مؤمناً، قال علي: والآن هو مؤمن.
هذا ما تيسر تعليقاً على الحديث الشريف موضوع السؤال، وفيه كفاية لمن أراد السداد....