قراءة في مشهد عرضته كلمات القرآن الكريم !!
تاريخ الإضافة : 2013-05-14 10:31:32
قراءة في مشهد عرضته كلمات القرآن الكريم !!

حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ

**يا لخطورة الانتكاسة في التقويم !!

ما وراء أن يُعملق بعضُهم الأقزامَ المختلين نفسيا؟ أهو اتباع الهوى ، أم هو الجهل بمعالم الشخصية العملاقة السوية ؟

 وبم انتكست الرؤى هذه الانتكاسة القاتلة حتى بتنا أمام من يعتبر الفسادَ من معين الإصلاح ! ويرى النفاق ضربا من الإخلاص ! ويعتقد قتل الأبرياء لونا من الدفاع عن الحق !! لعل من الأسباب الجهل بالرجل الرباني العملاق ، وبمقاييس العظمة ، فأثمر هذا الجهل أن الصرصور صار في الميزان " ديناصورا " والذبابة قطعة من " مجرة درب التبانة" وأمست النعامة الجبانة عنترة قرنهم " المعوج "!! وعلى هذا نرصد- هنا -  جانبا من مشهد رباني سجله كتاب الله تعالى ليستحضر به السلوك السّوي الذي يناقض السلوك " المُردي " مشهد هو مرآة مستوية صقيلة  نرى فيها القائد الرباني يقوم بما أنيط به من دور في البناء !هذا المشهد رسمت أبعاده كلمات الكتاب الكريم ن فإليه في قوله تعالى :

" وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ "

 سنبين مما ندرك من عطاء المشهد لاحقا إن شاء الله تعالى !

** من نبض قوله تعالى :" وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ " يبين لنا ماكان من أمر سليمان- عليه السلام- مع " الهدهد " والهدهد طير معروف وهدهدته صوته .

و قالوا فيه : إن الهدهد كان يرى الماء في الأرض كما يرى الإنسان الماء من داخل الزجاج ، فينقر الأرض ، فتأتي الشياطين المسخرة بأمر سليمان فتستخرجه

قال العلماء :في هذه الآية دليل على تفقد الإمام أحوال رعيته؛ والمحافظة عليهم ، فالهدهد مع صغره جسما، وكونه بين عشرات الآلاف ممن هم تحت نظر سليمان- عليه السلام-  لم يخف غيابه على القائد المخلص، فكيف بمن هو فوقه في الشأن.

وهذا من شأن الرسول الحبيب- عليه الصلاة والسلام - ومنه خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ثابت بن قيس بن شماس ، وكيف أنه افتقده بعد نزول سورة الحجرات ، فسأله عنه ، حتى عرف نبأه ثم بشره بالجنة ، وكثيرا ما تجد في سيرته- صلى الله عليه وسلم- أنه افتقد فلانا ، أو سأل عن فلان .

 ومن التلاميذ النجباء ، وكلهم على تنوع منازلهم نجباء ، عمر رضي الله عنه ! في الصحيح عن عبدالله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام ، وما كان من موقفه الذي سعى به إلى وقاية الناس " البلاء "

 قال العلماء: كان هذا الخروج من عمر بعد ما فتح بيت المقدس سنة سبع عشرة ، كان يتفقد أحوال رعيته وأحوال أمرائه بنفسه، هذا ، وقد دل القرآن والسنة على ما يجب على الإمام من تفقد أحوال رعيته، ومباشرة ذلك بنفسه، والسفر إلى ذلك ، وإن طال.

 ونقل عنه أنه كان يقول يحدد هذا البعد من المسؤولية : «لَوْ عَثَرَتْ شَاةٌ بِشَاطِئِ الفُرَاتِ لَظَنَنْتُ أَنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - سَائِلِي عَنْهَا يَوْمَ القِيَامَةِ» فهل لنا – هنا – ان نرى " النقيض " المقرف الذي تشمئز منه القذارة ، بله ما فوقها !

** تابع النبض الذي خفقت به كلمات الكتاب المبين الصائغ لأرقى سلوك وانظفه !

قال في سياقة التفقد : " ما لي لا أرى الهدهد" أي: ما للهدهد لا أراه ؛ فهو ضرب من القلب في التعبير، وبسطه قال فيه ابن عطية: مقصد الكلام : الهدهد غاب ، لكنه لم يقله ، وأخذ اللازم عن مغيبه ، وهو أنه لا يراه، فاستفهم على جهة التوقف على اللازم ، وهذا ضرب من الإيجاز.

قال الطاهر : صيغة " التفعُّل "  في الفعل [تفقَّد ] تدل على التكلف ، والتكلف في الطلب ، فهو كان ـ عليه السلام ـ يتكلف البحث والسؤال ، ويبذل فيهما طاقة دليلا على الإخلاص .

{ وتفقد الطير } أي: تجنب فقدهم ، بأن تعرف من هو منهم حاضر، ومن هو منهم مفقود ، والذي يلزمه أن لا يغيب أحد منهم إلا بإذن .

وقيل: إنما قال: "مالي لا أرى الهدهد"؛ لأنه اعتبر حال نفسه، إذ علم أنه أوتي الملك العظيم ، وسخر له كثير من الخلق، فلزمه حق الشكر بإقامة الطاعة ، وإدامة العدل، فلما فقد نعمة الهدهد ، توقع أن يكون قصّر في حق الشكر، فلأجله سلب النعمة ! فجعل يتفقد نفسه ؛ فقال: "مالي". قال ابن العربي: وهذا يفعله أرباب السلوك والسير إلى الله تعالى ، إذا فقدوا مالهم، تفقدوا أعمالهم !

في تفسير الطبري: اختار سليمان من كل طير طيرا، فجعله رأس تلك الطير، فإذا أراد أن يسأل شيئا من تلك الطير سأل رأسها. فوصل يوما في مسيره إلى المنزل الذي قصده فنزله ، وتفقد أحوال جنوده كما تقتضيه العناية بأمور الرعية ، وهناك { وتفقد الطير } إذ كانت أحد أركان جنده ، ففقد الهدهد { فقال ما لي } أي شيء حصل لي حال كوني { لا أرى الهدهد } أي: أهو حاضر ، وستره عني ساتر ، { أم كان من الغائبين* }

 وذكره للهدهد دونهم يدل على عظيم منزلته عنده بما له عنده من النفع ، وأن غيبة غيره كانت بأمره عليه السلام .

** و لا يمكن وصف الأثر الذي يحصل في قلب الفرد حين يعلم أو يشعر أن أميره افتقده وسأل عنه حتى وإن كان في السؤال عنه معاتبة ، قال الشاعر :

لئن ساءني أن نلتني بمساءة   **  لقد سرني أني خطرت ببالكِ

** ما زال المشهد الرباني متصلا ، ويرصد- هنا- ما كان من سليمان – عليه السلام- لما لم ير " الهدهد " حاضرا ، فأطلق يمينا مفصلا بها لما سينزله به من عقوبة  !

قال- تعالى- : " لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ " مبينا للأمة ذلك ليكتمل المشهد الذي امتلأ بالعطاء ، وما نقطف منه إلا ما يلوح لنا دون استقصاء !

لقد كان سليمان عليه السلام نبيا مسددا ، وملكا ملهما موفقا ، والناظر في تصرفاته في قصته مع الهدهد يلمح كثيرا من عناصر التفوق القيادي ، والتي منها : تفقد الأتباع : فمع أن سليمان قد حشر له جنود الإنس والجن والطير ، حتى ذكر بعض أهل التفسير أن معسكره كان مئة فرسخ في مئة ! مع هذا كله لم يفته غياب هذا الهدهد ، وتنبه له ... ولم يكن هذا التنبه عارضا ، وإنما بعد تفقد وسؤال مما يدل على أنه كان يحرص على رعيته ويسأل عنهم ، ** ولا يمكن أن يكون القائد ناجحا إلا بمثل هذا التفقد ،

قوله : " لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه" دليل على أن الحدّ على قدر الذنب ، لا على قدر الجسد، أما أنه يرفق بالمحدود في الزمان والصفة، فشأن آخر!

 وقوله :  { لأعذبنه } أي : بسبب غيبته فيما لم آذن فيه { عذاباً شديداً } أي: مع إبقاء روحه تأديباً له وردعاً لأمثاله { أو لأذبحنه } أي: تأديباً لغيره

 { أو ليأتيني } أي ليكونن أحد هذه الثلاثة الأشياء ، أو تكون { أو } الثانية بمعنى إلا أن فيكون المعنى : ليكونن أحد الأمرين : التعذيب أو الذبح

روي عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج أن تعذيبه للطير كان " بأن ينتف ريشه " وإلقائه في الشمس ، أو بالتفريق بينه وبين إلفه ، أو بإلزامه خدمة أقرانه ، أو بالحبس مع أضداده . وقيل: بتبعيده عن خدمته، والملوك يؤدبون بهجرمن يؤدبونه ! وما أصعبه على المحبين !.

** ما أقسم عليه من العقوبة ، مع فتح المجال للعذر وقبوله ، بقوله : " لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ "

 يبدو منه الحزم على وجهه الصائب ، بدوافعه ، دون أن يكون الأمر راجعا للتسلط ن أو الانتقام ممن يهدد وجوده كما يفعل الطغاة ! إذ لابد من الحزم للقائد الرباني ، ولكن دون عدوان وتسلط ، هو حزم يبتغى به مصلحة المجتمع ، وسيرورته في طريق العزة والكرامة ن ونظافة السلوك ،هو حزم لإقامة حياة ربانية ، وليس حزما لحراسة شخص القائد ، وكرسيه ! ، فسليمان- عليه السلام-  لما تبين له غياب الهدهد دون إذن ، ولما شاع خبر غيابه أمام الجميع ، أقسم على العقوبة ، وترك مجالا للاعتذار إن كان هناك اعتذار !، وقد اختلف المفسرون في شأن العذاب الشديد كما بينت. **لقد هدد سليمان الهدهد بهذه العقوبات " استصلاحا له ، إن كان يرجى صلاحه ، أو إعداما له لئلا يُصَدر للآخرين الفساد !  

 - فتح للهدهد باب العذر إن كان له عذر بقوله "أو ليأتيني بسلطان مبين" والسلطان ههنا الحجة ، والبينة ، فجاء الهدهد بها "فقال أحطت بما لم تحط به" ، وقبلها سليمان ، فكان كما وعد ،" إلا أن يأتيني " { بسلطان مبين* } أي حجة واضحة في عذره ، فكأنه قال : والله ليقيمن عذره أو لأفعلن معه أحد الأمرين ما الحجة التي أدلى بها الهد\\هد فنجته من العقوبة ن وكانت قاطعة ن ولها دلالات عميقة !

قال تعالى يبين ذلك لنا : " فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ "

  قوله تعالى: { فمكث } أي فترتب على ذلك أنه مكث بعد الحلف بالتهديد زماناً قريباً { غير بعيد } من زمان التهديد ، وأتى خوفاً من هيبة سليمان عليه السلام ، وقياماً بما يجب عليه من الخدمة ، قرأه عاصم وروح عن يعقوب بفتح الكاف على الأغلب في الأفعال الماضية ، وضم جماعة القراء " الكاف"إشارة إلى شدة الغيبة عن سليمان عليه السلام ليوافق إفهام حركة الكلمة ما أفهمه تركيب الكلام { فقال } عقب إتيانه مفخماً للشأن ومعظماً لرتبة العلم ودافعاً لما علم أنه أضمر من عقوبته : { أحطت }.

قال النسفي رحمه الله حول قوله تعالى : { فمكث غير بعيد } : (( ووصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان )). فقد كان الهدهد يهاب سليمان ويحترمه ويقدره ، ومع أنه كان في مهمة دعوية عظيمة الشأن إلا أنه مع ذلك حاول إنجازها بأسرع وقت لأنه تذكر أنه خرج في الأصل بغير استئذان !

  "وجئتك من سبأ بنبأ يقين" أعلم سليمان ما لم يكن يعلمه، ودفع عن نفسه ما توعده من العذاب والذبح. وفي الآية دليل على أن الصغير يقول للكبير والمتعلم للعالم عندي ما ليس عندك إذا تحقق ذلك وتيقنه. هذا عمر بن الخطاب مع جلالته رضي الله عنه وعلمه لم يكن عنده علم بالاستئذان. وكان علم التيمم عند عمار وغيره، وغاب عن عمر وابن مسعود حتى قالا: لا يتيمم الجنب. وكان حكم الإذن في أن تنفر الحائض عند ابن عباس ولم يعلمه عمر ولا زيد بن ثابت. وكان غسل رأس المحرم معلوما عند ابن عباس وخفي عن المسور بن مخرمة. ومثله كثير فلا يطول به.

" فقال أحطت بما لم تحط به " أي أنت من   اتساع علمك وامتداد ملكك ، والإحاطة : العلم بالشيء من جميع جهاته ،  أي: علمت ما لم تعلمه من الأمر، فكان في هذا إبطال لقول من زعم أن غير الأنبياء يعلمون الغيب ! وأنهم لا يخفى عليهم شيء من أمر " الكون " ولا يكون في زمانهم من هو أعلم منهم .

وفي هذه المكافحة التنبيه على أن أضعف الخلق قد يؤتي ما لا يصل إليه أقواهم لتتحاقر إلى العلماء علومهم ويردوا العلم في كل شيء إلى الله ، ولما أبهمه تشويقاً ، وأخذ بمجامع القلب إلى تعرفه ، ثنى بمدح الخبر مجلياً بعض إبهامه ، هزاً للنفس إلى طلب إتمامه ، فقال : { وجئتك } الآن { من سبإ بنبأ عظيم}

وفيه : رد على من قال: إن الأنبياء تعلم الغيب ، والحقيقة أنهم لا يعلمون إلا ما أطلعهم الله عليه ، وإذا كان هؤلاء القمم البشرية كذلك فهيهات لمن كان دونهم أن يعلم الغيب !!

ويتجلى هذا الاحترام والتقدير أيضا في عرض الهدهد القضية لسليمان دون أن يدلي فيها برأي آمر ، وإنما عرض ، ولمح دون زيادة ، ومس لمكانة من يخاطب عليه السلام ! .