ضيوف الموقع
تاريخ الإضافة : 2013-01-21 12:31:46

أسد بن الفرات

 إذا زحم ميدان الحياة أناس لا يكاد أحدهم يبين بأي فضيلة ترقى به ، أو سلوك يغري بالاتباع أو التعلق ،وإذا سعى أناس بخبث إلى عملقة الأقزام ، وصناعة " الرويبضة "ليستروا تفاهته بوريقات الزينة التي تستر عورات تفاهته ، ويسلط عليه أضواء الإعلام المزور نفخا فيه ، وتوريما لخصائصه الموهومة بعد أن تختلق ،ويصنع منها " صنما " للممانعة والمقاومة وروعة قيادة الحياة ، حينها يفقد المجتمع المضلل النجم الحقيقي الذي يسترشد به  في مناحي حياته العزيزة ،وبضياع القدوة في ميدان العطاء ، يتفشى التزوير ، ويتمهد السبيل إلى ارتفاع " الرويبضة " الذي حذر منه من لا ينطق عن الهوى !حيث إنه علامة من علامات الساعة، وقد حذر من بعض علامات الساعة ،ومنها أن يتكلم " الرويبضة " قالوا : وما الرويبضة ؟ قال الرجل " التافه " يتكلم في أمر العامة.هذا ، ومعه أمثاله ،دفع إلى الكشف عن النماذج الآسرة عبر التاريخ الإسلامي عسى أن يكونوا صوى على الطريق الصحيحة ،ومصابيح حيث تدلهم الخطوب ، وتحلولك الظلمة ، وبداية نحدد معالم رئيسة على طريق الحياة السليمة، حددتها نصوص شاركت في بناء الحياة وصياغة سلوك الفرد فيها:

قال ربنا جل جلاله : " وأعدوا لهم مااستطعتم من قوة " فكان المطلوب بحسب النص أن يعمر نفس كل فرد في الأمة إحساس بروح الجهاد ، وإسهام فيه بطريق مباشر، أو غير مباشر ، حتى تقوم دعائم المجتمع المؤمن على التعمير المثمر المحقق لحياة القوة والرخاء ، والاستعداد الكامل لحياة البذل والفداء ، خاصة إذا لوحظ أن هذه الأمة أمة منهج ودعوة ، وبيدها الموازين التي سلمت من التحريف ،أمة أريد لها أن تكون كما قال ربنا جل جلاله " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس " أمة جاء من أوصافها بقيادة الرسول الخاتم : " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم " . وبثا لهذا المعنى قرر المعصوم  معنى التعبئة العامة حيث قال سيد الخلائق  محمد - صلى الله عليه وسلم - : " من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من شعب النفاق " .

وبناء على القاعدة الراسخة في سلوك المسلم التي إن لم تكن فلا عبرة لأي قول أو فعل أو موقف يصدر عنه ، قال الحق سبحانه : " وجاهدوا في الله حق جهاده " فإنه أراد أن يكون جهاد الأمة قائماً على الإيمان العميق بأن كلمة الله - وهي كلمة الحق والعزة والقوة والعدل - فوق كل شيء . وبذلك اليقين يخلص المؤمن جهاده لربه ، وينأى به عن طلب الغنيمة أو الذكر أو الشهرة ، وقد جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال له : يارسول الله ! الرجل يقاتل للمغنم ، والرجل يقاتل للذكر ، ( أي ليرتفع ذكره بين الناس ) والرجل يقاتل ليرى مكانه ، فمن في سبيل الله ؟ . فقال رسول الله : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله .تناول السؤال مجموعة من البواعث التي تدفع إلى الدخول في ميدان القتال ، عرضها ليبين له الرسول صلى الله عليه وسلم : أي البواعث يرقى ليكون في سبيل الله ، والسؤال يكشف الرغبة الصادقة ليكون القتال تقربا إلى الله ، وقد حدد الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الباعث ليكون وحده في جهاد المسلم .

و لهذا لم يكن عجيباً ولاغريباً أن يمتليء تاريخ أمتنا برجال تجردوا للفقه والعلوم الشرعية ، وبلغوابها بين الناس  المراتب العالية ، وتقدمت بهم الأعمار حتى مستهم الشيخوخة بمسها ، ومع ذلك ظلوا على استعداد للقتال ، و " صلاحية " لطرق باب الجنة عبر بذل الروح ، إذ لم ينسوا ماتعلموه في تربيتهم الإسلامية الأساسية من فن الجهاد وروح الاستشهاد . وبذلك كانوا خير أمة أخرجت للناس

إذا أظلمت آفاق الحياة تطلع العقلاء إلى ما ينير الطريق ، ويبصر بمواقع الخطوات عليه ،ويلح هذا التطلع إذا سعى أناس إلى صناعة أصنام " آزرية "جديدة يسبغون عليها زخارف تجذب السذج من الناس لتتمسح  بها ، وتستقي منها بركات العظمة المختلقة المزيفة !

وهذا أحد رجالنا وأبطال أمتنا : إنه لم يعش في عهد النبوة ، ولا في عصر الخلفاء الراشدين ، ولا في عصر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ،لنوقن أن عطاء المنهج الذي حفظه الله لا ينقطع ، فمتى وجد الوعاء الحاضن ملأه بهدايته ، وسدد خطواته ،إن بطلنا  سطع نجمه في مجتمع بعد عصر النبوة بنحو مئة وخمسين عاماً ، وكان موضع تألقه بعيداً من منزل الوحي ومهبط الرسالة ، كان هناك في شمال إفريقية ، ومع ذلك بقي نور الإيمان مشرقاً في صدره وقلبه ، ومرشداً له على طريقه ودربه ، ولم يصده تأخر الزمان ، ولابعد المكان ،عن الإسهام الرائع في بناء مجتمعه على أسس من منهج الله  واليقين بالله، والفقه في دين الله، والإعداد والاستعداد ، والربط بين كتاب الدرس ، وجهاد النفس ، وسلاح الميدان .

إنه العالم العامل ، والإمام الفقيه ، والقاضي القائد : أبو عبدالله أسد بن الفرات بن سنان . كان مولده بنجران سنة ثنتين وأربعين ومائة ، وانتقل وهو طفل صغير مع أبيه إلى مدينة " القيروان " في شمال أفريقية ، ثم انتقل إلى مدينة " تونس " ، وحفظ القرآن الكريم هناك، وتربى تربية الإيمان ، وسلك مسلك الإحسان ، وتفقه على مذهب الإمامين مالك وأبي حنيفة ، وارتحل في سبيل طلب العلم إلى مصر والحجاز والعراق ، وكان نهماً في طلب العلم ، لايكتفي منه بمقدار محدود .

فقد سمع من الإمام مالك كتابه الجليل " الموطأ " في حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فلما انتهى الإمام من تدريس كتابه قال له أسد : زدنا أبا عبدالله سماعاً منك .

فقال له : حسبك ما للناس !.

ولكن أسد بن الفرات لايريد أن يكون في طلب العلم كسائر الناس ، إنه يريد مزيداً من المعرفة ، ولذلك كان يطلب العلم مااستطاع مع زملائه بالنهار ، ثم يخلو في الليل إلى استاذه محمد بن الحسن ( صاحب أبي حنيفة ) محاولاً أن يستوعب ماعنده من علم ، واتفق مع أستاذه على أنه إذا غلبه النوم يرشه أستاذه بقليل من الماء في وجهه ليستيقظ ، ومازال كذلك حتى حصل ماأراد من العلم .

وكانت نفسه عزيزة أبية ، مع حاجته وفقره ، وقد قص أبو بكر المالكي أكثر من قصة عن ذلك ، في الجزء الأول من كتابه " رياض النفوس " .

ولما هم أسد بن الفرات بتوديع شيخه العظيم مالك بن أنس رضي الله عنه قال له أسد : أوصني . فقال له مالك : " أوصيك بتقوى الله ، والقرآن ، والنصيحة لهذه الأمة " !.

ورجع أسد إلى شمال افريقية وهذه الوصية تضئ أمام عينيه بثلاث شعب، كل منها فيها خير كثير، الشعبة الأولى : تقوى الله عزوجل ، وهي خير الزاد كما قرر كتاب الله تعالى ،الشعبة الثانية الغالية : كتاب الله القرآن المجيد، الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ،والثالثة : الإخلاص في أنفاسه التي يطلقها للبناء  الرباني ،وخدمة هذه الأمة : أمة محمد - صلى الله عليه وسلم .     

وذاع صيت أسد بن الفرات في الفقه ، ونشر كتاب " الأسدية " بين الناس ، وهو يعد من أهم المراجع الأساسية في فقه المالكية ، واختير لتولي القضاء في أفريقية سنة ثلاث ومائتين ، فجعل القرآن والسنة عمدته في الأحكام بين الناس .

ومضت الأيام والأعوام وأسد بن الفرات يزداد شهرة بالعلم والفضل ، حتى بلغ الستين من عمره ، وكان المدافعة بين المسلمين والروم سنة الله المشروعة لحماية الحق وصيانته قد عنفت واشتدت ، وتطلع المسلمون إلى فتح جزيرة صقلية ، وهي يومئذ معقل خطير من معاقل الروم ، وتشاور المسلمون فيما بينهم : كيف يكون الفتح ؟ ومن يكون قائد الجيش ؟ .

وهنا حدثت المفاجأة ، فقد تقدم الشيخ القاضي أسد بن الفرات مطالباً بأن يكون هو ذلك القائد ، ليثبت للدينا أن الرجل الذي بلغ الستين وهو حليف العلم والافتاء والقضاء ، لم يهمل واجب الاستعداد لموقف التضحية والفداء ، ولما تباطأ ولي الأمر يومذاك في الاستجابة لرغبته تألم أسد ،وقال متحسراً : " وجدوني رخيصاً فلم يقبلوني ، وقد أصابوا من يجري لهم مراكبهم من النواتية ، فما أحوجهم إلى من يجريها لهم بالكتاب والسنة " !!.

ولم يطل وقت حتى شرح الله تعالى صدر ولي الأمر للخير ، فأرسل إلى القاضي الفقيه يخبره بأنه قد جعله أميراً على الجيش ، وكأن أسداً قد خاف أن يكون ذلك معناه أن ينقطع عن الفتوى للناس ، فقال لولي الأمر في ذلك : " أصلح الله الأمير ، من بعد القضاء والنظر في حلال الله تعالى وحرامه تعزلني عن الإمارة " ؟

فأجابه قائلاً : " إني لم أعزلك عن القضاء ، بل وليتك الإمارة وهي أشرف من القضاء ، وأبقيت لك اسم القضاء ، فأنت قاض أمير " . فجمع له بين الإمارة والقضاء

فانشرح صدر ابن الفرات لذلك ، والتاريخ يقول إنه لم تجتمع الإمارة والقضاء لأحد ببلد أفريقية إلا لأسد وحده ، وكان يقال له من أجل ذلك : " القاضي الأمير " .فلله دره 1 لم يكن هرا أسّدوه ، ولا فارا حشوه تبنا ليبدو كبير الجثة فيغر البصر، بل كان ذا باطن مفعم باليقين ، وظاهرا قد صبغ بأحكام الشريعة ثمرة صادقة لليقين !

وخرج الفقيه القائد إلى المعركة في شهر ربيع الأول سنةاثنتي عشرة ومائتين ، بجيش فيه عشرة آلاف مجاهد ، ليقابل بهم عدواً بلغ مائة وخمسين ألفاً ، وخرج وراءه وجوه أهل العلم وجموع الناس لوداعه ، ولما شاهد ابن الفرات كثيرة الناس من حوله ، وقد صهلت الخيول ، وضربت الطبول ، ونشرت البنود ، أدركته نزعة التواضع لربه ، فقال :

" لا إله إلا الله وحده لاشريك له ، والله - يامعشر الناس - ماولي لي أب ولاجد ولاية قط ، ولا رأى أحد من سلفي مثل هذا قط ، ومارأيت ماترون إلا بالأقلام ، فأجهدوا أنفسكم ، أتعبوا أبدانكم في طلب العلم وتدوينه ، وكاثروا عليه ، واصبروا على شدته ، فإنكم تنالون به الدنيا والآخرة " .

وأراد فريق من غير المسلمين أن ينضموا إلى جيش ابن الفرات ليحاربوا معه ، فأبى وقال : " لاحاجة بنا إلى الانتصار بالكفار "

وسار الجيش في طريقه حسب الخطة التي رسمها أسد له ، وبدأ الهجوم بحراً وبراً ، وصيحات التكبير تتعالى من أفواه المجاهدين لتذكرهم حساً ونفساً بأن الله أكبر من كل عدو ، وأكبر من كل شيء ، واللواء في يد ابن الفرات وهو يقرأ سورة " يس " ثم هتف بجنوده حاثاً لهم على الإقدام ، قائلاً لهم عن أعدائهم : " هؤلاء عجم الساحل"، هؤلاء عبيدكم ، لاتهابوهم " !

 وحمل المسلمون حملة صادقة على أعدائهم ، وفي طليعتهم أميرهم وفقيههم أسد بن الفرات ، لايبالي بالرماح ولابالجراح ، بل قاتل قتالاً مجيداً أذهل الذين لم يعرفوه إلا فقيهاً أو قاضياً ، وانهزم أهل الروم ، وسقط منهم كثيرون صرعى ، وفتح المسلمون صقلية لأول مرة ، وسيطر القائد ابن الفرات عليها ، وعلم ولي الأمر  " زيادة الله بن الأغلب " بالخبر فكتب بفتح صقلية على يدي أسد بن الفرات إلى " المأمون " سنة اثنتي عشرة ومائتين

وهذه هي عبارة أبي بكر المالكي عن أسد بن الفرات : " ثم ولاه زيادة الله بن ابراهيم بن الأغلب قضاء أفريقية سنة ثلاث ومائتين ، فأقام قاضياً عليها ، يقضي بين أهلها بالكتاب والسنة ، حتى خرج لغزو صقلية ، فجاهد بها الروم ، وقاتلهم قتالاً عظيماً ، وكانت له بها آثار مشهورة ، ومقامات مذكورة ، وافتتح منها مواضع كثيرة ، ثم توفي رحمه الله تعالى من جراحات أصابته وهو محاصر لسرقوسة ، في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث عشرة ومائتين ، ودفن بذلك الموضع . وسرقوسة كانت أكبر مدينة في صقلية . 

ويعود المالكي ليقول عن أسد الفقيه القائد في المعركة :

" فقاتل الروم قتالاً شديداً ، حتى هزمهم واستأصلهم ، وسكنها المسلمون واستوطنوها " .

وهناك في " سرقوسة " رقد البطل الفقيه الشهيد : أسد بن الفرات رضوان الله عليه .

إنه أسد بن الفرات الذي جمع بين العلم والعمل ، وبين الفقه والجهاد ، وبين سعي الدنيا وسعي الآخرة ، إنه المثال الصادق لكل من ينتسب إلى ميادين العلم.

إنه ابن الفرات الذي كان يعتز بنفسه في مواطن الشدة حتى يقول : " أنا اسمي أسد، وهو خير الوحش ، وأبي الفرات وهو خير المياه ، وجدي سنان وهو خير السلاح  " !

إنه ابن الفرات الذي كان ينطق بالحكمة فيقول مثلاً : " ثلاثة لاغيبة فيهم : صاحب بدعة ، وأمير غشوم ، ومن ألقى جلباب الحياء وظاهر بالسوء " .

إنه ابن الفرات الذي كان يعرف للحرفة مكانتها ، حتى حدث أن شاباً أكثر من الجلوس في مجلس أسد ، ولما سأله أسد عن أمره وعلم أنه صاحب حانوت نهوه وقال له : قم . فقال الشاب : ماقصتي أصلحك الله ؟ إن كنت أنكرت صناعتي تركتها . .

فقال له أسد : " ماأنكرتها ، ولكني أنكرت تعطيلك لحانوتك الذي منه معاشك ، وتقوى به على طلب العلم ، وصاحب الحانوت إنما هو بالحرفاء، فإذا جاءك حريفك اليوم ولم يجدك ، وغدا فلم يجدك ، وبعد غد مثل ذلك ، استبدل بك غيرك ، فضررت بنفسك وبمن تعوله .

ولكن إذا عزمت فاجعل لنفسك يوماً أو يومين في الجمعة ، يعلم حرفاؤك بمغيبك عن حانوتك في ذلك اليوم أو اليومين ، فيأخذون مايحتاجون إليه قبل مغيبك " .

ثم أشار أسد إلى بعض المترددين على مجالسه وقال للفتى : " انظر هؤلاء الذين يأتون ، إنما هم أهل حرث وحصاد ( أي زراع ) فإذا كان وقت حرثهم وحصادهم لم تر منهم أحدا ًيجيء إلينا ، فإذا انقضى حرثهم أو حصادهم عادوا إلى ما كانوا فيه " . فهل اتضح للمسلم اليوم ما كان من أمر المخلصين من هذه الأمة التي أكرمها الله بالرسالة الخاتمة ، هو مرآة صافية صقيلة ، ليست محدّبة ، ولا مقعّرة ، تشوه من ينظر إليها ، حفظ الله الأمة من المزورين !!!