إشعاعات
تاريخ الإضافة : 2013-03-12 03:50:29

الأنس بالله!

الأنس بالله!

الشعراوي : قال عز وجل:{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَىا }[طه:17]

فهل يعني هذا السؤال أن الله يستفهم من موسى عما بيده؟. إنه سؤال الإيناس في الكلام حتى يخلع موسى من دوامة المهابة.

وضربنا مثلا لذلك ـ ولله المثل الأعلى ـ حينما يذهب شخص إلى بيت صديقه ليزوره، فيأتي ولده الصغير ومعه لعبة، فيقول الضيف للطفل: ما الذي معك؟ إن الضيف يرى اللعبة في يد الطفل، لكن كلامه مع الطفل هو للإيناس. وعندما جاء كلام الله بالإيناس لموسى قال له:{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَىا }[طه:17]

كان يكفي موسى أن يقول: عصا، وتنتهي إجابته عن السؤال، ولو قال موسى: عصا، لكان ذلك منه عدم استيعاب لتقدير إيناس الله له بالكلام، لكن سيدنا موسى عليه السلام انتهز سؤال الله له ليطيل الأنس بالله فيقول:{ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىا غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىا }[طه:18]

تأمل التطويل في إجابة موسى. إنّ كلمة } هِيَ { زائدة، و } أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا { زائدة أي غير محتاج إليها في إفادة المعنى، و } وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىا غَنَمِي { تطويل أكثر " و } وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىا { رغبة منه في إطالة الحديث أكثر.

إذن فكلام الله والنظر إليه سبحانه افضل النعم التي ينعم الله بها على المؤمنين يوم القيامة.

فإذا كان الله سيمنع عن الكافرين وسائل التكريم المادي فلا يكلمهم،

ابن القيم :

سورة المزمل

قوله تعالى { واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا } المزمل : 8 و التبتل الانقطاع وهو تفعل من البتل وهو القطع وسميت مريم البتول لانقطاعها عن الأزواج وعن أن يكون لها نظراء من نساء زمانها ففاقت نساء الزمان شرفا وفضلا وقطعت منهن ومصدر بتل تبتلا كالتعلم والتفهم ولكن جاء على التفعيل مصدر تفعل لسر لطيف فإن في هذا الفعل إيذانا بالتدريج والتكلف والتعمل والتكثر والمبالغة فأتى بالفعل الدال على أحدهما بالمصدر الدال على الآخر فكأنه قيل : بتل نفسك إلى الله تبتيلا وتبتل إليه تبتلا ففهم المعنيان من الفعل ومصدره وهذا كثير في القرآن وهو من أحسن الاختصار والإيجاز

قال صاحب المنازل :

التبتل : الانقطاع إلى الله بالكلية وقوله عز وجل : له دعوة الحق الرعد : 14 أي التجريد المحض

ومراده بالتجريد المحض : التبتل عن ملاحظة الأعواض بحيث لا يكون المتبتل كالأجير الذي لا يخدم إلا لأجل الأجرة فإذا أخذها انصرف عن باب المستأجر بخلاف العبد فإنه يخدم بمقتضى عبوديته لا للأجرة فهو لا ينصرف عن باب سيده إلا إذا كان آبقا والآبق قد خرج من شرف العبودية ولم يحصل له إطلاق الحرية فصار بذلك مركوسا عند سيده وعند عبيده وغاية شرف النفس : دخولها تحت رق العبودية طوعا واختيارا ومحبة لا كرها وقهرا كما قيل :

شرف النفوس دخولها في رقهم ... والعبد يحوي الفخر بالتمليك

والذي حسن استشهاده بقوله : له دعوة الحق في هذا الموضع : إرادة هذا المعنى وأنه تعالى صاحب دعوة الحق لذاته وصفاته وإن لم يوجب لداعيه بها ثوابا فإنه يستحقها لذاته فهو أهل أن يعبد وحده ويدعى وحده ويقصد ويشكر ويحمد ويحب ويرجى ويخاف ويتوكل عليه ويستعان به ويستجار به ويلجأ إليه ويصمد إليه فتكون الدعوة الإلهية الحق له وحده

ومن قام بقلبه هذا معرفة وذوقا وحالا صح له مقام التبتل والتجريد المحض وقد فسر السلف دعوة الحق بالتوحيد والإخلاص فيه والصدق ومرادهم : هذا المعنى

فقال علي رضى الله عنه دعوة الحق : التوحيد وقال ابن عباس رضي الله عنهما شهادة أن لا إله إلا الله وقيل : الدعاء بالإخلاص والدعاء الخالص لا يكون إلا لله وحده ودعوة الحق دعوة الإلهية وحقوقها وتجريدها وإخلاصها

قال : وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى : تجريد الانقطاع عن الحظوظ واللحوظ إلى العالم خوفا أو رجاء أو مبالاة بحال

 قلت التبتل يجمع أمرين : اتصالا وانفصالا لا يصح إلا بهما فالانفصال : انقطاع قلبه عن حظوظ النفس المزاحمة لمراد الرب منه وعن التفات قلبه إلى ما سوى الله خوفا منه أو رغبة فيه أو مبالاة به أو فكرا فيه بحيث يشغل قلبه عن الله

والاتصال : لا يصح إلا بعد هذا الانفصال وهو اتصال القلب بالله وإقباله عليه وإقامة وجهه له حبا وخوفا ورجاء وإنابة وتوكلا

ثم ذكر الشيخ ما يعين على هذا التجريد وبأي شيء يحصل فقال :

بحسم الرجاء بالرضى وقطع الخوف بالتسليم ورفض المبالاة بشهود الحقيقة يقول : إن الذى يحسم مادة رجاء المخلوقين من قلبك : هو الرضى بحكم الله

عز وجل وقسمه لك فمن رضي بحكم الله وقسمه لم يبق لرجاء الخلق في قلبه موضع

والذي يحسم مادة الخوف : هو التسليم لله فإن من سلم لله واستسلم له وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له لم يبق لخوف المخلوقين في قلبه موضع أيضا فإن نفسه التي يخاف عليها قد سلمها إلى وليها ومولاها وعلم أنه لا يصيبها إلا ما كتب لها وأن ما كتب لها لابد أن يصيبها فلا معنى للخوف من غير الله بوجه وفي التسليم أيضا فائدة لطيفة وهي أنه إذا سلمها الله فقد أودعها عنده وأحرزها في حرزه وجعلها تحت كنفه حيث لا تنالها يد عدو عاد ولا بغي باغ عات

والذي يحسم مادة المبالاة بالناس : شهود الحقيقة وهو رؤية الأشياء كلها من الله وبالله وفي قبضته وتحت قهره وسلطانه لا يتحرك منها شيء إلا بحوله وقوته ولا ينفع ولا يضر إلا بإذنه ومشيئته فما وجه المبالاة بالخلق بعد هذا الشهود

قال : الدرجة الثانية : تجريد الانقطاع عن التعريج على النفس بمجانبة الهوى وتنسم روح الأنس وشيم برق الكشف

الفرق بين هذه الدرجة والتي قبلها : أن الأولى انقطاع عن الخلق وهذه انقطاع عن النفس وجعله بثلاثة أشياء

أولها : مجانبة الهوى ومخالفته ونهي نفسه عنه لأن اتباعه يصد عن التبتل

وثانيها : وهو بعد مخالفة الهوى تنسم روح الأنس بالله والروح للروح كالروح للبدن فهو روحها وراحتها وإنما حصل له هذا الروح لما أعرض عن هواه فحينئذ تنسم روح الأنس بالله ووجد رائحته إذ النفس لا بد لها من التعلق فلما انقطع تعلقها من هواها وجدت روح الأنس بالله وهبت عليها نسماته فريحتها وأحيتها

وثالثها : شيم برق الكشف وهو مطالعته واستشرافه والنظر إليه ليعلم به مواقع الغيث ومساقط الرحمة

وليس مراده بالكشف ههنا : الكشف الجزئي السفلي المشترك بين البر والفاجر والمؤمن والكافر كالكشف عن مخبآت الناس ومستورهموإنما هو الكشف عن ثلاثة أشياء هن منتهى كشف الصادقين أرباب البصائر

أحدها : الكشف عن منازل السير

---

والثاني : الكشف عن عيوب النفس وآفات الأعمال ومفسداتها

والثالث : الكشف عن معاني الأسماء والصفات وحقائق التوحيد والمعرفة وهذه الأبواب الثلاثة : هي مجامع علوم القوم وعليها يحومون وحولها يدندنون وإليها يشمرون فمنهم من جل كلامه ومعظمه : في السير وصفة المنازل ومنهم من جل كلامه : في الآفات والقواطع ومنهم من جل كلامه : في التوحيد والمعرفة وحقائق الأسماء والصفات

والصادق الذكي يأخذ من كل منهم ما عنده من الحق فيستعين به على مطلبه ولايرد ما يجده عنده من الحق لتقصيره في الحق الآخر ويهدره به فالكمال المطلق لله رب العالمين وما من العباد إلا له مقام معلوم

قال : الدرجة الثالثة : تجريد الانقطاع إلى السبق بتصحيح الاستقامة والاستغراق في قصد الوصول والنظر إلى أوائل الجمع

لما جعل الدرجة الأولى انقطاعا عن الخلق والثانية انقطاعا عن النفس جعل الثالثة طلبا للسبق وجعله بتصحيح الاستقامة وهي الإعراض عما سوى الحق ولزوم الإقبال عليه والاشتغال بمحابه ثم بالاستغراق في قصد الوصول

وهو أن يشغله طلب الوصول عن كل شيء بحيث يستغرق همومه وعزائمه وإراداته أوقاته وإنما يكون ذلك بعد بدو برق الكشف المذكور له

أهـ { مدارج السالكين حـ 2 صـ 29 ـ 33 }

والاعتكاف من اشرف الاعمال اذا كان عن اخلاص لان فيه تفريغ القلب عما سوى الله تعالى

قال عطاء مثل المعتكف كرجل له حاجة الى عظيم فيجلس على بابه ويقول لا ابرح حتى يقضى حاجتى فكذلك المعتكف يجلس فى بيت الله ويقول لا ابرح حتى يغفر لى وفى الحديث « من مشى فى حاجة اخيه فكأنما اعتكف عشرين سنة ومن اعتكف يوما جعل الله بينه وبين النار ثلاثة خنادق كل خندق ابعد مما بين الخافقين » وفى الخلوة والانقطاع عن الناس فوائد جمة يسلم منه الناس وسلم هو منهم وفيها خمول النفس والاعراض عن الدنيا وهو اول طريق الصدق والاخلاص وفيها الانس بالله والتوكل والرضى بالكفاف فان المعاشر للناس والمخالط يتكلف فى معيشته البتة فاذا لا يفرق غالبا بين الحلال والحرام فيقع فى الهلاك ويسلم المتخلى ايضا من مداهنة الناس وغير ذلك من المعاصى التى يتعرض الانسان لها غالبا بالمخالطة

قال حضرة الشيخ الشهير بافتاده افندى قدس سره التصوف عبارة عن الاجتناب عن كل ما فيه شائبة الحرمة وصون لسانه عن الكلام اللغو والخلوة والاربعون ليست الا هذا فانه وحدة فى الكثرة والمقصود من الخلوة ايضا ذلك ولكن ما يكون فى الكثرة على الوجه الذى ذكرنا اثبت واحكم لان ما يكون بالخلوة يزول اذا اختلط بين الناس وليس كذلك ما ذكر فطريقنا طريق النبى عليه السلام وطريق الاصحاب رضى الله تعالى عنهم والنبى عليه السلام لم يعين الاربعين بل الاعتكاف فى العشر الاخير من رمضان نعم فعل ذلك موسى عليه السلام قال تعالى

الظلال : والمحسنون هم : { الذين يقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، وهم بالآخرة هم يوقنون } . . وإقامة الصلاة وأداؤها على وجهها وفي وقتها أداء كاملاً تتحقق به حكمتها وأثرها في الشعور والسلوك ، وتنعقد به تلك الصلة الوثيقة بين القلب والرب ، ويتم به هذا الأنس بالله وتذوق حلاوته التي تعلق القلوب بالصلاة . . وإيتاء الزكاة يحقق استعلاء النفس على شحها الفطري ، وإقامة نظام لحياة الجماعة يرتكن إلى التكافل والتعاون . ويجد الواجدون فيه والمحرومون الثقة والطمأنينة ومودات القلوب التي لم يفسدها الترف ولا الحرمان . . واليقين بالآخرة هو الضمان ليقظة القلب البشري ، وتطلعه إلى ما عند الله ، واستعلائه على أوهاق الأرض ، وترفعه على متاع الحياة الدنيا؛ ومراقبة الله في السر والعلن وفي الدقيق والجليل؛ والوصول إلى درجة الإحسان التي سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك » .

وهؤلاء المحسنون هم الذين يكون الكتاب لهم هدى ورحمة؛ لأنهم بما في قلوبهم من تفتح وشفافية يجدون في صحبة هذا الكتاب راحة وطمأنينة؛ ويتصلون بما في طبيعته من هدى ونور ، ويدركون مراميه وأهدافه الحكيمة ، وتصطلح نفوسهم عليه ، وتحس بالتوافق والتناسق ووحدة الاتجاه ، ووضوح الطريق . وإن هذا القرآن ليعطي كل قلب بمقدار ما في هذا القلب من حساسية وتفتح وإشراق؛ وبقدر ما يقبل عليه في حب وتطلع وإعزاز . إنه كائن حي يعاطف القلوب الصديقة ، ويجاوب المشاعر المتوجهة إليه بالرفرفة والحنين!

نظم الدر : ولما كان من النهايات للواصلين إلى حضرات القدس ومواطن الأنس بالله , المتمكنين في درجة الغناء عن غير الفاعل المختار أن لايراد إلا ما يريد سبحانه , فإن كان طاعة أراده العبد ورضيه , وإن كان معصية أراده من حيث إنه مراد الله ولم يرضه لكونه معصية , فيرضى بالقضاء دون المقضي ,

زهرة التفاسير : وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله تعالى بهذه الهداية، والرجوع إلى الله تعالى وبذكر الله، وذكر الله تعالى يجعل القلوب مطمئنة، لأنه إذا امتلأ القلب بذكر الله تعالى سكن إليه، وأصبح لَا يبالي شيئًا من كوارث الدنيا، فالقلق والفزع، والخوف من الحرمان، والشدائد، كل هذا يذهب، ولا يكون شيئا إذا عمر القلب بذكر الله، فلا يكون فيه فراغ لشيء من هذا الخوف أو الفزع، وذلك لأن الأنس بالله يوجد في القلب اطمئنانًا، ويجعل النفس في حال رجاء لرحمته، ومغفرته.

وقد قرر اللَّه تعالت حكمته هذا أي فقال: (أَلا بِذِكرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، أي أنها تكون في فزع هالع إذا لم تذكر الله، فإذا ذكرت الله تعالى هانَ كل شيء، لأنها حينئذ تلجأ إلى حصن من القرار، لَا تصل إليه عوامل القلق والاضطراب، وقوله تعالى: (بِذِكْرِ اللَّهِ) بتقديم الجار والمجرور على الفعل يفيد الاختصاص، أي بذكر الله وحده لَا بشيء آخر تطمئن القلوب، و (ال) في (الْقُلُوبُ) لبيان عمومها، فالقلوب كلها لَا تطمئن إلا بذكر الله تعالى؛ ولذلك تكون القلوب الخالية من ذكر الله تكون في فزع مستمر، لأنها خالية من الإيمان غير عامرة.

وإن المؤمنين لفرط إحساسهم بالواجبات عليهم وإدراكهم للنذر تقشعر جلودهم عند سماع القرآن، وما فيه من نذر تقشعر جلودهم، ولا يذهب بذلك إلا ذكر الله تعالى، اقرأ قوله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23).

ذلك جزاء معنوي للمؤمن الذاكر لله تعالى العامر قلبه بأنسه ونوره، وفي الآخرة يكون هذا الجزاء، وجزاء رضوان الله تعالى، ونعيم الجنة، وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك فقال عز من قائل:

(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)

تفسير المنار :

إِذْ كَانُوا يَؤُمُّونَ أَسْوَاقَ مَوْسِمِ الْحَجِّ وَأَشْهَرُهَا عُكَاظُ مِنْ جَمِيعِ النَّوَاحِي لِإِظْهَارِ بَلَاغَتِهِمْ وَبَرَاعَتِهِمْ ، فَكَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ الْأَسْبَابِ لِارْتِقَاءِ لُغَتِهِمْ ، وَلِوُجُودِ الْحِكْمَةِ فِي شِعْرِهِمْ ، فَكَانَ مِنَ الْغَرِيبِ أَنْ يَزْهَدَ فِي مُشَارَكَتِهِمْ فِيهِ بِنَفْسِهِ ، وَفِي رِوَايَتِهِ لِمَا عَسَاهُ يَسْمَعُهُ مِنْهُ ، وَقَدْ سَمِعَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ زُهَاءَ مِائَةِ قَافِيَةٍ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ فَقَالَ : ((إِنْ كَادَ لَيُسْلِمُ)) وَقَالَ : ((آمَنَ شِعْرُهُ وَكَفَرَ قَلْبُهُ)) وَقَالَ : ((إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا ، وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكَمًا)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : ((إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا)) فَقَدْ رَوَاهُ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ .

قُلْنَا : إِنَّ اسْتِعْدَادَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ فَطَرِيٌّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ كَسْبِهِ بِعِلْمٍ وَلَا عَمَلٍ لِسَانِيٍّ وَلَا نَفْسِيٍّ ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَرْجُوهَا كَمَا رُوِيَ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ ، بَلْ رُوِيَ عَنْ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - أَنَّهَا لَمَّا سَمِعَتْ مِنْ غُلَامِهَا مَيْسَرَةَ أَخْبَارَ أَمَانَتِهِ وَفَضَائِلِهِ وَكَرَامَاتِهِ وَمَا قَالَ بَحِيرَى الرَّاهِبُ فِيهِ تَعَلَّقَ أَمَلُهَا بِأَنْ يَكُونَ

هُوَ النَّبِيَّ الَّذِي يَتَحَدَّثُونَ عَنْهُ ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لَا يَصِلُ شَيْءٌ مِنْهَا إِلَى دَرَجَةِ الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ كَحَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا ، فَإِنْ قِيلَ إِنَّهُ يُقَوِّيهِ حَلِفُهَا بِاللهِ إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُخْزِيهِ أَبَدًا ، قُلْنَا : إِنَّهَا عَلَّلَتْ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَتْهُ مِنْ فَضَائِلِهِ ، وَرَأَتْ أَنَّهَا فِي حَاجَةٍ إِلَى اسْتِفْتَاءِ ابْنِ عَمِّهَا أُمَيَّةَ فِي شَأْنِهِ .

وَأَمَّا اخْتِلَاؤُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَعَبُّدُهُ فِي الْغَارِ عَامَ الْوَحْيِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ كَانَ عَمَلًا كَسْبِيًّا مُقَوِّيًا لِذَلِكَ الِاسْتِعْدَادِ السَّلْبِيِّ مِنَ الْعُزْلَةِ وَعَدَمِ مُشَارَكَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ عِبَادَاتِهِمْ وَلَا عَادَاتِهِمْ ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَقْصِدُ الِاسْتِعْدَادَ لِلنُّبُوَّةِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِأَجْلِهَا لَاعْتَقَدَ حِينَ رَأَى الْمَلِكَ أَوْ عَقِبَ رُؤْيَتِهِ حُصُولَ مَأْمُولِهِ وَتَحَقُّقِ رَجَائِهِ وَلَمْ يَخَفْ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْبَاعِثُ لِهَذَا الِاخْتِلَاءِ ، وَالتَّحَنُّثِ اشْتِدَادَ الْوَحْشَةِ مِنْ سُوءِ حَالِ النَّاسِ وَالْهَرَبِ مِنْهَا إِلَى الْأُنْسِ بِاللهِ تَعَالَى ، وَالرَّجَاءِ فِي هِدَايَتِهِ إِلَى الْمَخْرَجِ مِنْهَا ، كَمَا بَسَطَهُ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الضُّحَى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) (93 : 7) وَمَا يُفَسِّرُهُ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ الشُّورَى (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (42 : 52 و53) وَأَلَمَّ بِهِ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ إِلْمَامًا مُخْتَصَرًا مُفِيدًا ، فَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى : ((مِنَ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ أَنْ يَتِيمًا فَقِيرًا أُمِّيًّا مِثْلَهُ تَنْطَبِعُ نَفْسُهُ بِمَا تَرَاهُ مِنْ أَوَّلِ نَشْأَتِهِ إِلَى زَمَنِ كُهُولَتِهِ ، وَيَتَأَثَّرُ عَقْلُهُ بِمَا يَسْمَعُهُ مِمَّنْ يُخَالِطُهُ لَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مِنْ ذَوِي قَرَابَتِهِ وَأَهْلِ عَصَبَتِهِ ،

 وَلَا كِتَابَ يُرْشِدُهُ ، وَلَا أُسْتَاذَ يُنَبِّهُهُ ، وَلَا عَضُدَ إِذَا عَزَمَ يُؤَيِّدُهُ ، فَلَوْ جَرَى الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى جَارِي السُّنَنِ لَنَشَأَ عَلَى عَقَائِدِهِمْ ، وَأَخَذَ بِمَذَاهِبِهِمْ ، إِلَى أَنْ يَبْلُغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ ، وَيَكُونَ لِلْفِكْرِ وَالنَّظَرِ مَجَالٌ ، فَيَرْجِعُ إِلَى مُخَالَفَتِهِمْ ، إِذَا قَامَ لَهُ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِ ضَلَالَاتِهِمْ ، كَمَا فَعَلَ الْقَلِيلُ مِمَّنْ كَانُوا عَلَى عَهْدِهِ وَلَكِنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَجْرِ عَلَى سُنَّتِهِ ، بَلْ بُغِّضَتْ إِلَيْهِ الْوَثَنِيَّةُ مِنْ مَبْدَأِ عُمُرِهِ ، فَعَاجَلَتْهُ طَهَارَةُ الْعَقِيدَةِ ، كَمَا بَادَرَهُ

حُسْنُ الْخَلِيقَةِ ،

ولذلك قال بعض الحكماء في دعائه يا من آنسنى بذكره وأوحشنى من خلقه وقال الله عز و جل لداود عليه السلام كن لى مشتاقا وبى متأنسا ومن سواى مستوحشا وقيل لرابعة بم نلت هذه المنزلة قالت بتركى ما لا يعنينى وأنسى بمن لم يزل

 وقال عبد الواحد بن زيد مررت براهب فقلت له يا راهب لقد أعجبتك الوحدة فقال يا هذا لو ذقت حلاوة الوحدة لاستوحشت إليها من نفسك الوحدة رأس العبادة فقلت يا راهب ما أقل ما تجده في الوحدة قال الراحة من مداراة الناس والسلامة من شرهم قلت يا راهب متى يذوق العبد حلاوة الأنس بالله تعالى قال إذا صفا الود وخلصت المعاملة قلت ومتى يصفو الود قال إذا اجتمع الهم فصار هما واحد في الطاعة وقال بعض الحكماء عجبا للخلائق كيف أرادوا بك بدلا عجبا للقلوب كيف استأنست بسواك عنك

 فإن قلت فما علامة الأنس فاعلم أن علامته الخاصة ضيق الصدر من معاشرة الخلق والتبرم بهم واستهتاره بعذوبة الذكر فإن خالط فهو كمنفرد في جماعة ومجتمع في خلوة وغريب في حضر وحاضر في سفر وشاهد في غيبة وغائب في حضور مخالط بالبدن منفرد بالقلب مستغرق بعذوبة الذكر كما قال على كرم الله وجهه في وصفهم هم قوم هجم بهم العلم على حقيقة الأمر فباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعر المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه

 فهذا معنى الأنس بالله وهذه علامته وهذه شواهده

 وقد ذهب بعض المتكلمين إلى انكار الأنس والشوق والحب لظنه أن ذلك يدل على التشبيه وجهله بأن جمال المدركات بالبصائر أكمل من جمال المبصرات ولذة معرفتها أغلب على ذوى القلوب ومنهم أحمد بن غالب يعرف بغلام الخليل أنكر على الجنيد وعلى أبى الحسن النورى والجماعة حديث الحب والشوق والعشق حتى أنكر بعضهم مقام الرضا وقال ليس إلا الصبر فأما الرضا فغير متصور

 وهذا كله كلام ناقص قاصر لم يطلع من مقامات الدين إلا على القشور فظن أنه لا وجود إلا للقشر فإن المحسوسات وكل ما يدخل في الخيال من طريق الدين قشر مجرد ووراءه اللب المطلوب فمن لم يصل من الجوز إلا إلى قشره يظن أن الجوز خشب كله ويستحيل عنده خروج الدهن منه لا محالة وهو معذور ولكن عذره غير مقبول وقد قيل .   إحياء علوم الدين :

 الأنس بالله لا يحويه بطال ... وليس يدركه بالحول محتال

 والآنسون رجال كلهم نجب ... وكلهم صفوة لله عمال

 بيان معنى الانبساط والإدلال الذى تثمره غلبة الأنس

 أعلم أن الأنس إذا دام وغلب واستحكم ولم يشوشه قلق الشوق ولم ينغصه خوف التغير والحجاب فإنه يثمر نوعا من الانبساط في الأقوال والأفعال والمناجاة مع الله تعالى وقد يكون منكر الصورة لما فيه من الجراءة وقلة الهيبة ولكنه محتمل ممن أقيم في مقام الأنس ومن لم يقم في ذلك المقام ويتشبه بهم في الفعل والكلام هلك به وأشرف على الكفر

 ومثاله مناجاة برخ الأسود الذى أمر الله تعالى كليمه موسى عليه السلام أن يسأله ليستسقى لبنى إسرائيل

بعد أن قحطوا سبع سنين وخرج موسى عليه السلام ليستسقى لهم في سبعين ألفا فأوحى الله عز و جل إليه كيف أستجيب لهم وقد أظلمت عليهم ذنوبهم سرائرهم خبيثة يدعوننى على غير يقين ويأمنون مكرى ارجع إلى عبد من عبادى يقال له برخ فقل له يخرج حتى أستجيب له فسأل عنه موسى عليه السلام فلم يعرف فبينما موسى ذات يوم يمشى فى طريق إذا بعبد أسود قد استقبله بين عينيه تراب من أثر السجود فى شملة قد عقدها على عنقه فعرفه موسى عليه السلام بنور الله عز و جل فسلم عليه وقال له ما اسمك فقال اسمى برخ قال فأنت طلبتنا منذ حين أخرج فاستسق لنا

 فخرج فقال فى كلامه ما هذا من فعالك ولا هذا من حلمك وما الذى بدالك أنقصت عليك عيونك أم عاندت الرياح عن طاعتك أم نفد ما عندك ام اشتد غضبك على المذنبين ألست كنت غفارا قبل خلق الخطائين خلقت الرحمة وأمرت بالعطف ام ترينا أنك ممتنع أم تخشى الفوت فتجعل بالعقوبة قال فما برح حتى اخضلت بنو اسرائيل بالقطر وأنبت الله تعالى العشب فى نصف يوم حتى بلغ الركب قال فرجع برخ فاستقبله موسى عليه السلام فقال كيف رأيت حين خاصمت ربى كيف أنصفنى فهم موسى عليه السلام به فأوحى الله تعالى إليه إن برخا يضحكنى كل يوم ثلاث مرات

 وعن الحسن قال احترقت أخصاص بالبصرة فبقى فى وسطها خص لم يحترق وأبو موسى يومئذ أمير البصرة فأخبر بذلك فبعث إلى صاحب الخص قال فاتى بشيخ فقال يا شيخ ما بال خصك لم يحترق قال إنى أقسمت على ربى عز و جل أن لا يحرقه فقال أبو موسى رضى الله عنه إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول يكون فى أمتى قوم شعثة رءوسهم دنسة ثيابهم لو أقسموا على الله لأبرهم // حديث الحسن عن أبى موسى يكون في أمتى قوم شعثة رءوسهم دنسة ثيابهم لو أقسموا على الله لأبرهم أخرجه ابن أبى الدنيا في كتاب الأولياء وفيه انقطاع وجهالة // قال ووقع حريق بالبصرة فجاء أبو عبيدة الخواص فجعل يتخطى النار فقال له أمير البصرة انظر لا تحترق بالنار فقال إنى أقسمت على ربى عز و جل أن لا يحرقنى بالنار قال فاعزم على النار أن تطفأ قال فعزم عليها فطفئت

 وكان أبو حفص يمشى ذات يوم فاستقبله رستاقى مدهوش فقال له أبو حفص ما أصابك فقال ضل حمارى ولا املك غيره قال فوقف أبو حفص وقال وعزتك لا أخطو خطوة ما لم ترد عليه حماره قال فظهر حماره في الوقت ومر أبو حفص رحمه الله

 فهذا وأمثاله يجري لذوى الأنس وليس لغيرهم أن يتشبه بهم

 قال الجنيد رحمه الله أهل الأنس يقولون في كلامهم ومناجاتهم في خلواتهم أشياء هى كفر عند العامة

 وقال مرة لو سمعها العموم لكفروهم وهم يجدون المزيد في أحوالهم بذلك

 وذلك يحتمل منهم ويليق بهم وأليه أشار القائل

 قوم تخالجهم زهو بسيدهم ... والعبد يزهو على مقدار مولاه

 تاهوا برؤيته عما سواه له ... يا حسن رؤيتهم في عز ما تاهوا

 ولا تستبعدون رضاه عن العبد بما يغضب به على غيره مهما اختلف مقامهما ففي القرآن تنبيهات على هذه المعانى لو فطنت وفهمت فجميع قصص القرآن تنبيهات لأولى البصائر والأبصار حتى ينظروا إليها بعين الاعتبار فإنما هى عند ذوى الاعتبار من الأسماء

 فأول القصص قصة آدم عليه السلام وإبليس أما تراهما كيف اشتركا في اسم المعصية والمخالفة ثم تباينا في الاجتباء والعصمة

 أما إبليس فأبلس عن رحمته وقيل إنه من المبعدين

 وأما آدم عليه السلام فقيل فيه وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى

فكذلك الانبساط والإدلال يحتمل من بعض العباد دون بعض فمن انبساط الأنس قول موسى عليه السلام إن هى إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدى من تشاء وقوله فى التعليل والاعتذار لما قيل له اذهب إلى فرعون فقال ولهم على ذنب وقوله إنى اخاف أن يكذبون ويضيق صدرى ولا ينطلق لسانى وقوله إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى وهذا من غير موسى عليه السلام من سوء الأدب لأن الذى أقيم مقام الأنس يلاطف ويحتمل ولم يحتمل ليونس عليه السلام ما دون هذا لما أقيم مقام القبض والهيبة فعوقب بالسجن في بطن الحوت في ظلمات ثلاث ونودى عليه إلى يوم القيامة لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم قال الحسن العراء هو القيامة ونهى نبينا صلى الله عليه و سلم أن يقتدى به

 وقيل له فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم

 وهذه الاختلافات بعضها لاختلاف الأحوال والمقامات وبعضها لما سبق في الأزل من التفاضل والتفاوت في القسمة بين العباد وقد قال تعالى ولقد فضلنا بعض النبين على بعض وقد قال منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات فكان عيسى عليه السلام من المفضلين ولإدلالة سلم على نفسه فقال والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا وهذا انبساط منه لما شاهد من اللطف في مقام الأنس

 وأما يحيى بن زكريا عليه السلام فإنه أقيم مقام الهيبة والحياء فلم ينطق حتى أثنى عليه خالقه فقال وسلام عليه

 وانظر كيف احتمل لإخوة يوسف ما فعلوه بيوسف وقد قال بعض العلماء قد عددت من اول قوله تعالى إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا إلى رأس العشرين من إخباره تعالى عن زهدهم فيه نيفا وأربعين خطيئة بعضها أكبر من بعض وقد يجتمع في الكلمة الواحدة الثلاث والأربع فغفر لهم وعفا عنهم ولم يحتمل العزير في مسألة واحدة سأل عنها في القدر حتى قيل محى من ديوان النبوة وكذلك كان بلعام بن باعوراء من أكابر العلماء فأكل الدنيا بالدين فلم يحتمل له ذلك

 وكان آصف من المسرفين وكانت معصيته في الجوارح فعفا عنه

 فقد روى أن الله تعالى أوحى إلى سليمان عليه السلام يا رأس العابدين ويا ابن محجة الزاهدين إلى كم يعصينى ابن خالتك آصف وأنا أحلم عليه مرة بعد مرة فوعزتى وجلالى لئن أخذته عصفة من عصفاتى عليه لأتركنه مثلة لمن معه ونكالا لمن بعده فلما دخل آصف على سليمان عليه السلام أخبره بما أوحى الله تعالى إليه فخرج حتى علا كثيبا من رمل ثم رفع رأسه ويديه نحو السماء وقال إلهى وسيدى أنت أنت وأنا وأنا فكيف أتوب إن لم تتب على وكيف أستعصم إن لم تعصمنى لأعودن فأوحى الله تعالى إليه صدقت يا آصف أنت أنت وأنا وأنا استقبل التوبة وقد تبت عليك وأنا التواب الرحيم وهذا كلام مدل به عليه وهارب منه إليه وناظر به إليه

فكذلك الانبساط والإدلال يحتمل من بعض العباد دون بعض فمن انبساط الأنس قول موسى عليه السلام إن هى إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدى من تشاء وقوله فى التعليل والاعتذار لما قيل له اذهب إلى فرعون فقال ولهم على ذنب وقوله إنى اخاف أن يكذبون ويضيق صدرى ولا ينطلق لسانى وقوله إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى وهذا من غير موسى عليه السلام من سوء الأدب لأن الذى أقيم مقام الأنس يلاطف ويحتمل ولم يحتمل ليونس عليه السلام ما دون هذا لما أقيم مقام القبض والهيبة فعوقب بالسجن في بطن الحوت في ظلمات ثلاث ونودى عليه إلى يوم القيامة لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم قال الحسن العراء هو القيامة ونهى نبينا صلى الله عليه و سلم أن يقتدى به

 وقيل له فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم

 وهذه الاختلافات بعضها لاختلاف الأحوال والمقامات وبعضها لما سبق في الأزل من التفاضل والتفاوت في القسمة بين العباد وقد قال تعالى ولقد فضلنا بعض النبين على بعض وقد قال منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات فكان عيسى عليه السلام من المفضلين ولإدلالة سلم على نفسه فقال والسلام على يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا وهذا انبساط منه لما شاهد من اللطف في مقام الأنس

 وأما يحيى بن زكريا عليه السلام فإنه أقيم مقام الهيبة والحياء فلم ينطق حتى أثنى عليه خالقه فقال وسلام عليه

 وانظر كيف احتمل لإخوة يوسف ما فعلوه بيوسف وقد قال بعض العلماء قد عددت من اول قوله تعالى إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا إلى رأس العشرين من إخباره تعالى عن زهدهم فيه نيفا وأربعين خطيئة بعضها أكبر من بعض وقد يجتمع في الكلمة الواحدة الثلاث والأربع فغفر لهم وعفا عنهم ولم يحتمل العزير في مسألة واحدة سأل عنها في القدر حتى قيل محى من ديوان النبوة وكذلك كان بلعام بن باعوراء من أكابر العلماء فأكل الدنيا بالدين فلم يحتمل له ذلك

 وكان آصف من المسرفين وكانت معصيته في الجوارح فعفا عنه

 فقد روى أن الله تعالى أوحى إلى سليمان عليه السلام يا رأس العابدين ويا ابن محجة الزاهدين إلى كم يعصينى ابن خالتك آصف وأنا أحلم عليه مرة بعد مرة فوعزتى وجلالى لئن أخذته عصفة من عصفاتى عليه لأتركنه مثلة لمن معه ونكالا لمن بعده فلما دخل آصف على سليمان عل