حكم إثبات الشهر القمري بالحساب الفلكي
تاريخ الإضافة : 2012-08-12 06:07:42
ما هو الحكم الشرعي في إثبات دخول الشهر القمري بالحساب الفلكي ؟ وهل يعتد به في إثبات بداية شهر رمضان للصيام وفي إثبات بداية شهر شوال للإفطار ؟ أم يجب فقط تحري بداية الشهر بالرؤية العينية المجردة للهلال ؟

بسم الله الرحمن الرحيم

سيدي الكريم / .....

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

لإثبات الهلال –كما نص الفقهاء- طريقتان :

 

  • الرؤية بالعين , من الجم الفقير , أو رؤية عدلين , أو رؤية عدل واحد , على اختلاف بين الفقهاء .
  • إكمال الشهر ثلاثين , لأن الشهر إما تسعة وعشرون، أو ثلاثون يوما , كما جاء في الحديث الشريف ... حيث قال –صلى الله عليه وسلم- " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " وصيغة الجمع في الأمرين "صوموا وأفطروا" تؤنس بعدم اعتبار اختلاف المطالع , فإذا رؤي في قطر لزم سائر الأقطار , وإن تباعدت , واختلفت مطالعها , كما عليه الجمهور .
  • إذا لم ير الهلال بعد غروب شمس التاسع والعشرين من شعبان , أو من رمضان , أكمل الشهر ثلاثين , فعن ابن عمر –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال : "الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه , فإن غمّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" وعلى هذا , إن تبين في نهاية رمضان أن شعبان كان ناقصا , وجب قضاء اليوم الذي غمّ فيه الهلال , وقبل أن أسطر مجموعة من الحقائق هنا أذكر ما جاء عن المذاهب بخصوص ارتباط الصيام والفطر بالهلال رؤية، لا حسابا .
  • المشهور عن الشافعي أنه لا يصام إلا برؤية فاشية , أو شهادة عادلة , كالذي عليه الجمهور .
  • المعتمد عند الأحناف أن شرط وجوب الصوم والإفطار رؤية الهلال , ولا عبرة بقول المؤقتين ولو عدولا , ومن رجع إلى قولهم فقد خالف الشرع .
  • منع الأمام مالك من اعتماد الحساب في إثبات الهلال , فقال : إن الإمام الذي يعتمد على الحساب لا يقتدى به , ولا يتبع .
  • وبين أبو الوليد الباجي حكم صيام من اعتمد على الحساب : فقال : فإن فعل ذلك أحد , فالذي عندي انه لا يعتد بما صام منه على الحساب , ويرجع إلى الرؤية وإكمال العدد...
  • لا يعتمد الحنابلة الحساب الفلكي في إثبات هلال رمضان، ولو كثرت إصابته .
  • وقال النووي : قال أصحابنا وغيرهم : لا يجب صوم رمضان إلا بدخوله , ويعلم دخوله برؤية الهلال . فإن غمّ وجب استكمال شعبان ثلاثين , ثم يصومون، سواء كانت السماء مصحيّة أو مغيّمة , وفي هذا حصر طرق إثبات هلال رمضان في الرؤية وإكمال شعبان ثلاثين , وفي هذا الحصر نفي لاعتماد الحساب .

 

  • علي أنا قبل أن نأتي بقول القائلين باعتماد الحساب في إثبات الأهله نذكر عدة مسائل :
  • نقل القرافي قولا آخر للمالكية بجواز اعتماد الحساب في إثبات الأهلة .
  • عن مطرف بن عبد الله أن العارف بالحساب يعمل به في نفسه .
  • وقال القشيري : إذا دل الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يرى لولا وجود المانع كالغيم مثلا , فهذا يقتضي الوجوب لوجود السبب الشرعي , وليس حقيقة الرؤية مشروطة في اللزوم ... إذ إن الهلال قد طلع , لكن هناك مانع منع من الرؤية , واستدل على الطلوع بالحساب ...
  • ونقل القليوبي عن العبادي قوله : إذا دل الحساب القطعي على عدم رؤية الهلال , لم يقبل قول العدول برؤيته , وترد شهادتهم , ولا يجوز الصوم حينئذ .

 

والآن إليك بعض الاستنتاجات :

  • أن النص الشرعي قد ربط بدء الصيام برؤية هلال رمضان , أو إكمال شعبان إن تعذرت الرؤية لعارض في السماء .
  • الأصل في إثبات الهلال بالعين المجردة , ولعل إضافة ما يقوي الرؤية كمكبر لا يمنع .
  • إذا رؤي الهلال في أفق لزم كل الآفاق أن تصوم , مع اختلاف المطالع فيها , لا سيما ونحن في عصر يسرت فيه وسائل الاتصال , على أن من الأئمة من راعى اختلاف المطالع , وله أدلة على ذلك , وعليه فلو لم تلتزم بلد بالصيام حيث لم ير فيها الهلال , فلها ذلك إذا اختلف مطلعها عن مطلع البلد الأخرى , وقد رؤي هناك الهلال , وعلينا أن لا نستهول ذلك لرجوعه إلى أصل شرعي , وإن كنا نميل ميلا كاملا إلى توحيد الأمة في عبادة الصوم وأفراح العيد، خاصة في عصر عملت فيه سكاكين التفريق والتمزيق عملها , فمراعاة مذهب الجمهور بعدم اعتبار اختلاف المطالع أولى .
  • مضى قرون على الأمة , وهي تصوم وتفطر على رصد الهلال رؤية بالعين , ويحتشد الكثيرون مع مطالع رمضان يتحرون الهلال , وفي هذا عبادة , وهناك من تمرس بالتحري وامتلك مهارة فائقة قلما تخطيء في رصد الهلال .
  • هذا التكليف ينسجم مع كل الآفاق , و الأوقات , مادام هناك عيون ترى , والمرئي ظاهرة كونية راسخة في الوجود , وينسجم مع عالمية الإسلام , وصلاحية لكل زمان ومكان , حيث لا يعتبر علم الحساب ولا المراصد ...
  • هذا التكليف على يسره , وبساطته , وقربه من الممارسة أولى من أن يسند الأمر إلى علم اختص به أناس مهما كان منضبطا , خاصة أن النصوص قد انصبت عليه , وقد نفاجأ بين الحين والآخر باختلاف علماء الفلك وأرباب الحساب أنفسهم فيما بينهم ...
  • ولعلي لا أبعد هنا إذا سقت الحديث الذي اختلف في تأويل فقرة منه اختلافا بني على أحد طرفيه التوجه إلى تبني الحساب ...

عن عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ذكر رمضان , فقال : " لا تصوموا حتى تروا الهلال , ولا تفطروا حتى تروه , فإن غمّ عليكم فاقدروا له"

قال ابن سريج "فاقدروا له" خطاب لمن خصه الله بعلم الحساب , وقوله في الحديث الآخر "فاكملوا العدة" خطاب للعامة .

وذهب الأئمة في تفسير "فاقدروا له" إلى حمل التقدير على إتمامهم الشهر , وإلى معنى تضييق عدد أيام الشهر , والمعنى الأول ذهب إليه أبو حنيفة ومالك والشافعي وجمهور السلف والخلف , وقل نقل عن ابن عمر أنه يصبح مفطرا إذا كانت السماء صاحية , وصائما إذا كانت مغيمة , يتأول قول النبي "فاقدروا" إلى إتمام الشهر ثلاثين .وفي البخاري رواية فيها أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال : الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه , فإن غمّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" وفيه أيضا حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته , فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين" وقد أيد ابن رشد تفسير البخاري , وعلله بأن التقدير يكون بمعنى "التمام" وواضح من الحديث الأول الذي بدأت به في هذه الفقرة أنه قد علق بداية الصيام والشروع في الإفطار برؤية الهلال , وعند تعذر الرؤية بغيم يحجب الهلال قال : فإن غمّ عليكم فاقدروا له" ورجح تفسير "فاقدروا" أكملوا بالشواهد السابقة ..

وختاما , حيث ترجح بل اتضح أمر الشريعة ما كلفتنا بحساب الفلك بل برؤية الهلال , وحيث كان أمر الرؤية ميسرا , وكان الهلال المتحرى ظاهرة كونية لا تخفى غالبا , فلم - يا ترى - يعرّج على إلغاء الرؤية , والتوجه إلى ما لا نكلف به , علما أننا بهذا لا ننتقل من شاق إلى ميسر مثلا , بل من نص إلى وسيلة مطروحة يراد منها إلغاء عبادة التحري , ووظيفة العين , مع أن الحساب نفسه لا يرفع الخلاف كما نرى البلاد التي تناكف في مسألة الصيام وتأبى إلا الشذوذ تحت شعار الحساب وعلم الفلك , ونرى دولتين تتبنيان هذا الحساب مع اختلاف واضح بينهما ...