ما هي حكمة الصوم عن الكلام في قضيتي زكريا و مريم عليهما...
تاريخ الإضافة : 2012-12-15 16:05:07
ما هي حكمة الصوم عن الكلام في قضيتي زكريا و مريم عليهما السلام؟

أنقل بعضا مما قاله العلماء والمفسرون في هذا الشأن ثم أرجو أن يفتح بمعنى من جملة ذلك :

 

عَنْ قتادة قَالَ في قوله تعالى: {قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} " إِنَّمَا عوقب بذلك، لأن الملائكة شافهته بذلك مشافهة، فبشرته بيحيى، فسأل الآيَة بعد كَلام الملائكة إياه، فأخذ عَلَيْهِ بلسانه

وقَالَ ابْن جريج: " آيتك أن لا تكلم النَّاس ثلاثة أيام تمسك عَلَى فيك

ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا يقال إنه طلب آية لوقت الحمل ليعجل السرور به فأمسك على لسانه فلم يقدر أن يكلم الناس إلا بالإيماء ، عَنْ مجاهد قوله : {إِلا رَمْزًا} " يومئه إيماء بشفتيه، وقالوا: الرمز : الإشارة والإيماء بالشفتين والحاجب .

قَالَ" رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً " المراد بالآية هنا العلامة ، أي: اجعل لي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به من الولد . آية : أي علامة تدلني على حمل امرأتي، وقال بعض أهل العلم : طلب الآية على ذلك لتتم طمأنينته بوقوع ما بشر به،  وقيل : أراد بالعلامة أن يعرف ابتداء حمل امرأته ، لأن الحمل في أول زمنه يخفى . فأوحى إليه: أن هذا فعل الله والله يفعل ما يشاء. وهنا قال زكريا: رب اجعل لي آية يريد علامة يستدل بها على وجود الحمل ليستقبل النعمة بالشكر فأجابه ربه قائلاً: {آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} يريد أنك تصبح وأنت عاجز عن الكلام لمدة ثلاثة أيام، فلا تقدر أن تخاطب أحداً إلا بالإشارة وهي الرمز فيفهم عنك، وأمره تعالى أن يقابل هذا الإنعام بالشكر التام فقال له: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ} يريد صل بالعشي آخر النهار والإبكار أوله.

ولما تحقق بالبشارة طلبَ العلامةَ، فقال: { رب اجعل لي آية } أعرف بها حمل المرأة، لاستقبله بالبشاشة والشكر، { قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام } أي: لا تقدر على كلام الناس ثلاثاً، فحبس لسانه عن الكلام دون الذكر والشكر، ليخلص المدة للذكر والشكر، { إلا رمزاً } بيدٍ أورأس أو حاجب أو عين. { واذكر ربك كثيراً } في هذه المدة التي حبِسْتَ فيها عن الكلام، وهو يُبين الغرض من الحبس عن الكلام. وتقييد الأمر بالكثرة يدل على أنه لا يفيد التكرار.

وقوله : ( آياتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ( جعل الله حُبْسة لسانه عن الكلام آية على الوقت الذي تحمل فيه زوجته ، لأنّ الله صرف ما لَه من القوة في أعصاب الكلام المتصلة بالدمَاغ إلى أعصاب التناسل بحكمة عجيبة يقرب منها ما يذكر من سقوط بعض الإحساس لمن يأكل البَلاذر لقوة الفكر . أوْ أمرِه بالامتناع من الكلام مع الناس إعانة على انصراف القوة من المنطق إلى التناسل ، أي متى تمت ثلاثة الأيام كان ذلك أمارة ابتداء الحمل . ، فيكون الجواب على هذا الوجه من قبيل أسلوب الحكيم لأنه سأل آيةً فأعطي غيرها .

 

 أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} أي تمنع من الكلام ثلاث ليال ؛ دليل هذا القول قوله تعالى بعد بشري الملائكة له. "وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا" أي أوجدتك بقدرتي فكذلك أوجد لك الولد. واختار هذا القول النحاس وقال : قول قتادة إن زكريا عوقب بترك الكلام قول مرغوب عنه ؛ لأن الله عز وجل لم يخبرنا أنه أذنب ولا أنه نهاه عن هذا ؛ والقول فيه أن المعنى اجعل لي علامة تدل على كون الولد ، إذ كان ذلك مغيبا عني 

 

{قال آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } أي :علامتك على وقوع ذلك ألا تكلم الناس ، أيك أن تمنع الكلام فلا تطيقه ثلاث ليال بأيامهن في حال كونك سوياً ، أي: سوى الخلق ، سليم الجوارح ، ما بك خرس ولا بكم ولكنك ممنوع من الكلام على سبيل خرق العادة ،   والإيحاء في قوله : { فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ } قال بعض العلماء : هو الإشارة وهو الأظهر بدليل قوله « إلا رمزاً » وقالوا مما استنبط من التعبيرما نصه : فيه هذه الآية دليل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام ، وذلك موجود في كثير من السنة ، وآكد الإشارات ما حكم به النَّبي صلى الله عليه وسلم من أمر السوداء حين قال لها : « أين الله؟ » فأشارت برأسها إلى السماء ، فقال : « اعتقها فإنها مؤمنة » فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الديانة الذي يحرز به الدم والمال ، وتستحق به الجنة وينجي به من النار ، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك ، فيجب أن تكون الإشارة عاملة في سائر الديانة ، وهو قول عامة الفقهاء .

 

وذلك في الآية: { فقولي إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً } فإن في هذه الآية التصريح بنذرها الإمساك عن كلام كل إنسي ، مع أنه تعالى قال : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } [ مريم : 29 ] أي أشارت لهم إليه أن كلموه يخبركم بحقيقة الأمره فهذه إشارة مفهمة ، وقد فهمها قومها فأجابوها جواباً مطابقاً لفهمهم ما أشارب به : { قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً } وهذه الإشارة المفهمة لو كانت كالنطق لأفسدت نذر مريم ألا تكلم إنسياً . فالآية صريحة في أن الكلام باللفظ يخل بنذرها ، وأن الإشارة ليست كذلك ، فقد جاء الفرق صريحاً في القرآن بين اللفظ والإشارة ، وكذلك قوله تعالى { قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } فإن الله جعل له آية على ما بُشر به وهي منعه من الكلام ، مع أنه لم يمنع من الإشارة بدليل قوله : { إلا رمزاً } وقوله : { فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ }. فدل ذلك على أن الإشارة ليست كالكلام ، لأن استثناءه تعالى قوله { إلا رمزاً } من قوله { أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس } يفهم منه أن الرمز الذي هو الإشارة نوع من جنس الكلام استثنى منه ، لأن الأصل في الاستثناء الاتصال .

- قال صاحب الكشاف : قال الله - تعالى - لزكريا آيتك ألا تقدر على تكليم الناس ثلاثة أيام : وإنما خص تكليم الناس ليعلمه أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة مع إبقاء قدرته على التكلم بذكر الله . ولذلك قال : { واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار } يعنى فى أيام عجزك عن تكليم الناس وهى من الآيات الباهرة.

- فإن قلت : لم حبس لسانه عن كلام الناس؟ قلت : ليخلص المدة لذكر الله لا يشغل لسانه بغيره ، توفرا منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة وشكرها الذي طلب الآية من أجله ، كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له : آيتك أن يحبس لسانك إلا عن الشكر . وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقا من السؤال ومنتزعا منه { إِلاَّ رَمْزاً } أى : إلا إشارة بيد أو رأس أو غيرهما .

وعلى رأى صاحب الكشاف يكون احتباس لسان زكريا عن كلام الناس اضطراريا وليس عن اختيار منه .

ويمكن أن يقال . إن المراد بقوله - تعالى - { قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً }  أن زكريا - عليه السلام - عندما طلب آية يعرف بها أن زوجته قد حملت بهذا الغلام الذى بشره الله به ، أخبره - سبحانه - أن العلامة على ذلك أن يوفق إلى خلوص نفسه من شواغل الدنيا حتى أنه ليجد نفسه متجها اتجاها كليا إلى ذكر الله وتمجيده وتسبيحه ، دون أن يكون عنده أى دافع إلى كلام الناس أو مخالطتهم مع قدرته على ذلك ، وعلى هذا يكون انصراف زكريا - عليه السلام - عن كلام الناس اختيارا وليس اضطراريا كما يرى صاحب الكشاف .