هل الإنسان مخير أم مسير، و ما تأثير علم الله الأزلي...
تاريخ الإضافة : 2012-08-12 06:19:16
هل الإنسان مخير أم مسير، و ما تأثير علم الله الأزلي بقدرنا؟

بسم الله الرحمن الرحيم

سيدي الكريم / .....

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

 

سألت –أخي العزيز- عن مسألة التخيير والتسيير، وعن تأثير علم الله الأزلي بنا ؟

وأجيب عن ذلك بأن مصطلح مسيّر أو مخيّر أفرزته الحركة العلمية في العصر العباسي، ويعنون بالتسيير الإجبار، وضده الاختيار، وما أعرفه من السنة في هذا الإطار الحديث الشريف "كل ميسّر لما خلق له" والتيسير هنا له طعم لا نجده في التسيير ... وقد حدّد العلماء معنى كل من الكلمتين، فقالوا : التسيير هو التصرفات والحركات غير الإرادية، كالتثاؤب، والمرض، والولادة، وكل مالا إرادة لنا فيه، ككوني ابن فلان، وولدت في البلد الفلاني، وفي الزمان الفلاني، وهذا كله وأمثاله لا أحاسب عليه، إذ هو خارج إرادتي و خارج إطار التكليف .. وعليه فلا يقال الإنسان مسيّر أم مخيّر بهذا التحديد الصارم، لأنه ليس مسيرا دائما وبكل شؤونه، ولا هو مخير دائما، وفي كل شؤونه، ويقال أن أموراً كثيرة تتعلق بالإنسان ليس مخيرا فيها، ككونه ذكرا أو أنثى، أو من مواليد سنة كذا، أو هو ابن لوالديه فلان وفلانة، وما يتعلق باللون، وما أقيم في بدنه من أعضاء بها قوامه، كالجهاز التنفسي والهضمي وشبكة الحواس ... فقد خلق الإنسان مضطرا للهواء والماء والغذاء ... وكثير من آليات وجوده على هذا الضرب، وهناك جانب ترك للإنسان أن يتحرك فيه باختياره، ومنه الإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، وإتباع المنهج أو إتباع خطوات الشيطان، وتفاصيل ذلك أمر عسير، لكنه كله في دائرة الاختيار، فمثلا مرت امرأة متعطرة في الطريق، وأنت لك حاسة البصر وحاسة الشم، أنت مخيّر في أن تنظر إليها، أو تغض بصرك عنها، وما وصل إلى شمك المفتوح لا اختيار لك فيه، إلا إذا استتبعت ما شممت بدواعي الشهوة، فهذا الاستتباع يكون باختيارك، والمكلف محاسب على ما يأتي به باختياره ،لا مضطرا ، وعلى ما يترك كذلك، إذ التكليف كله في دائرة الفعل والترك . قال تعالى مثبتا المشيئة للإنسان "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" وهذا الاختيار جاء في سياق عام تضمن : دخول المكلف في سن التكليف وهو البلوغ، وأن يكون عاقلا، وأن تكون الدعوة قد بلغته، وهو سليم الحواس حيث يمكنه أن يدرك ما يدعى إليه، والمنهج قد بيّن عاقبة كل من الاختيارين : اختيار الإيمان واختيار الكفر .

ولو أعدنا البداية لقلنا: أكل حركات الإنسان، وما يكون منه، أو فيه، أو عليه، يصدر بإرادته ؟ أم يجمع بين الأمرين : الإرادي وغير الإرادي ؟ الحركة الانعكاسية فينا لا إرادية، مجموعة من الظواهر نعيشها كالعطاس الغالب، والتثاؤب المفاجئ، والنعاس المثبط عن الحركة والمسلم بعدها إلى رحاب النوم ، بل اليقظة من النوم بداية، المشاعر الانفعالية كجوع وعطش وخوف بأسبابه المختلفة، كل هذا ومعه الكثير لا سلطان لنا عليه ، ولا يد لنا فيه، وكله لا يدخل في دائرة التكليف، بل جاءت الشريعة مراعية لهذه الظواهر، فأرشدت من غلبه النعاس، وهو في صلاة قيام الليل أن يرقد ولا يكمل صلاته، لأن النعاس يفقده التركيز، ولا سلطان له عليه إذا تزوج عينيه، وربما أراد أن يدعو لنفسه فإذا به يدعو على نفسه، والعقلاء يميزون بين الأعمال الاختيارية وغير الاختيارية، كالارتعاش من حمى ضارية، وحركة القيام للصلاة أو الذهاب للسوق، والأمور التي يخطط لها ويعدّلها عدتها، وتنفذ على حسب ما خطط لها، ولا يصح أن يقال إنا مسيرون في المعاصي ومجبورون عليها كحالتنا أمام حركة التنفس فينا أو الارتعاش من بردية ضاربة، وقد بينت الشريعة أن من أكره على أمر من قبل غيره فإنه لا يوصف بالإثم إذا فعل ما أكره عليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" أفيصح مع هذا البيان النبوي المشرق، والرسول أعلم بهذه القضايا أن يقول ترفع الشريعة الإثم ممن أكره على فعل محرم، والله تعالى يجير خلقه على فعل المحرم، ويسيرهم في دروب الشقاء ؟!! سبحانك هذا لا يجوز ولا يعقل ...

أخي الكريم ! الأدلة على ما بينت لا تعد، ولو لدي الوقت الكافي لكتبت لك عشرات الصفحات بيانا لهذه الحقيقة، وهي في دائرة التكليف لا إجبار على الإطلاق، أما خارج هذه الدائرة فنرى أمورا وظواهر وقوالب كونية وضع فيها الإنسان ن ولا خيار له فيها.

أما مسألة علم الله تعالى، فإن صفة العلم باتفاق العلماء والعقلاء ليست صفة تأثير، بل هي صفة انكشاف، أي: انكشف لعلم الله أزلا الواجبات والجائزات والمستحيلات، وحيث كانت صفة انكشاف فإنها لا تدخل في قضية عمل الإنسان وما يتصل به من شؤون إلا بما يتصل بعلم الله تعالى بهذا الإنسان من الأزل و دون سبق جهل، وإليك مثالاً ينشعب إلى شعبتين، كلاهما تصب في مصب أن العلم كاشف، وليس بمجبر، الأول : علمت أن جاري سيذهب إلى الحج، أو علمت أنه ذهب وعاد، فما مدى تأثير علمي هذا برحلة جاري إلى الحج، الحالة الاولى: تعلق علمي بحجه قبل وقوعه، والثانية: تعلق علمي به بعد حجه ورجوعه، وهذا يمكن أن تعممه على كل ما تعلق به علم الإنسان، والعلم على هذا لا يعدو معرفة تأتت عبر وسائلها إلى ذات العارف، وإن كان علمنا يعتريه الخطأ، أو يسبقه جهل، أو يكتنفه لون غموض أحيانا، فإن علم الله ليس كمثله شيء، كذات الله تعالى، فهو صفة أزلية قائمة بذات الله تعالى ليس كمثلها شيء، تتعلق بالواجبات والجائزات والمستحيلات تعلق انكشاف، والشعبة الثانية تراها عندك في البيت وفي كل بيت، هي المرآة، وهذا المثال للتقريب مع الاحتفاظ بما لله تعالى من صفات منزهة عن المشابهة، فأنت تقف أمام المرآة فإذا بشعر رأسك مشعث فتسارع إلى المشط لتهذبه، ترى هل المرآة التي انكشف لها بها التشعيث هي التي دفعت الشعر إلى أن يكون على ما كان عليه، أم أنها لم تعد أن كشفت، أو انكشف بها حال الشعر .. أعود للتأكيد على أن المثال يقرب ما نريد من معنى دون أن يكون متطابقا معه، فوجه الشبه الانكشاف دون التأثير .

ونافلة أسوق بيتا قاله أحدهم، ولما كان موهما الجبر ولو لم ينص عليه، تعقبه العلماء وبينوا موطن الوهم فيه، مع أنه يمكن أن يوجه وجه سليمة، هذا البيت هو

فما نعصيك عن قصد ولكن عصينا إذ عصينا مكرهينا

قال العلماء : إن هذا يوهم الجبر، وإن لم يكن صريحا فيه، ومذهب أهل الحق أن لا جبر في أفعال العباد، وكيف تقوم حجة الله على خلقه إن كانوا مجبورين على ما يأتون ويذرون، والآيات صريحة في الكسب والاختيار ، وما يوهم منها غير ذلك محمول على العلم الأزلي، والعلم لا يصح مجبرا ... وختاما مع رجاء التواصل في هذا المسار وغيره أقول : إذا كانت الهرة حين تريد اجتياز الأسطح توازن بين المسافات وبين قدرتها على القفز، أفيكون الإنسان دون الهرة، فيسلك في عربة الحياة تجره في الدروب التي لا يريدها رغما عن أنفه ثم يحاسب !! هذا ما جاءت الشريعة الغراء الواضحة الثابتة بخلافه، بل قال تعالى في مضمار ما حرم على عباده" فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه"