خلاصة القول في محبة آل البيت
تاريخ الإضافة : 2012-10-29 07:19:01
خلاصة القول في محبة آل البيت

محبة آل البيت حدود وآفاق ومظاهر

  باديء ذي بدء أقول: الحب عاطفة نبيلة، بها يطيب السلوك ويوجه، لها أسبابها المتعددة، وقد أجملها أناس في "الحسن والإحسان"، وهذه العاطفة لا تضبط كميتها، إذ تتأثر بأسبابها، وتقوى وتضعف، وتبرد وتحر، وتفور وتهدأ، ويضبط ما تثمره من أقوال وأفعال، ولا يعقل - هنا - أن يدعي أحد محبة تقود إلى مخالفة من أحب، وعليه؛ فالضابط المتين اللاجم لهذه العاطفة أن تشتط هو مراعاة محاب المحبوب، وترسّم سيرة المحبين الضابطين لهذه العاطفة.

إن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم هي ميل قلب المسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ميلاً يتحقق فيه إيثاره على كل من سواه من البشر، دون خروج عن ضوابط النصوص، أو الإضافة عليها مما لم تنص عليه، فالمحبة أمر زائد على الاتباع، إذ هي بمنزلة الباعث والدافع إلى هذا الاتباع، وهي ركن أساسي من أركان الإيمان لا يصح الإيمان دونه، والتعبير الحقيقي عن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم يتمثل في صدق الاتباع له، والاقتداء به وتعظيمه وتوقيره والقيام بحقوقه ومحبة ما يحبه وبغض ما يبغضه، ومثل هذا يقال في محبة آل بيته صلى الله عليه وسلم، أي من حيث الالتزام بضوابط الشريعة الغراء ما أجازت وما منعت، حيث إن للعلاقة بين المحبة والغلو بوناً شاسعاً، فالمحبة أمر شرعي؛ والغلو مذموم ، ومنهي عنه شرعاً، ولا يمكن اتفاقهما، ولعل ما يأتي من بيان يوضح هذه المعاني وفق ما طلب السائل بيانه.

لا بد هنا قبل الدخول في ثنايا الموضوع أن نقف على مفهوم آل البيت، فأقول:

- إن مفهوم آل البيت في القرآن الكريم صادق على كل مؤمني بني هاشم إضافة إلى أمهات المؤمنين - رضي الله عنهن-، فمن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم: زوجاته، وأقاربه من بني هاشم، مثل: علي بن أبي طالب والحسن والحسين والعباس والفضل بن العباس، فهؤلاء هم أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نص القرآن الكريم في سورة الأحزاب على أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته، فذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}،،

علما ان نصوصاً قرآنية تناولت ذكر الأهل على معنى " زوجة الرجل " كما في قوله- تعالى- : " وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى  * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى " أكان مع موسى عليه السلام صهره وزوج ابنته ؟  وقوله: " وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " ومعلوم أن المقصود بالأهل بيوت أ زواج النبي عليه الصلاة والسلام ، أفيسمي الله أزواج النبي أهله ، ويأتي الجاهل باللغة ، بدافع الهوى ، لينفي أن تكون أزواج النبي خارج نطاق أهله عليه الصلاة والسلام ؟!

وهذا حديث العباس يشير إلى أن بني هاشم هم من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أنه قال له وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم، فقال: "والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي". وهذا الحديث يبين على وجهه: أن المسلم لا يحقق الإيمان إلا بمحبة آل البيت، كما تقول: إن من خصال الإيمان الواجبة صلة الرحم، فمن خصال الإيمان الواجبة محبة آل البيت، فقاطع الرحم يسمى فاسقاً، ومن لم يحب آل البيت يسمى فاسقاً.

- والناظر المنصف في كتاب الله تعالى يتيقن أنه لا يوجد دليل قرآني يدل على وجوب محبة آل البيت على جهة الاستقلال، أما تبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم فموجود، فقد تعبدنا الله تعالى بالصلاة والسلام عليهم، وجعل ذلك مقروناً مع الصلاة والسلام على سبب شرفهم، وتاج مجدهم، سيدنا وحبيبنا محمد عليه الصلاة والسلام، وعليه فقد أوجب الله لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس حقوقاً، فلا يجوز لمسلم أن يسقط حقهم، ويظن أنه من التوحيد، بل هو من الغلو، كما من الغلو ما ينسب أناس إليهم من صفات " كالعصمة" مما يتعارض مع ما ثبت بالنصوص من أن العصمة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحدهم، كما لا توجد فضيلة خاصة في آية من القرآن لعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم سوى في آية المباهلة، على أن ذكرهم في آية المباهلة اقتضاها مضمون المباهلة نفسه، لأنه لا يتصور أن يباهل الإنسان أحداً على أمر ليقول له: عدمت ابن جارنا إن لم أكن مصيباً، وإنما يباهل على نفسه ومن يكون أشد لواذاً به، كما أنه لا يوجد دليل قرآني على عصمة أحد من آل البيت، أو على استحقاق أحد منهم للخلافة، أو على أنهم مغفورو الذنوب إلا بما جاءت به الشريعة في هذا الشأن، نعم؛ إن القرآن الكريم يثبت حقاً مالياً لأهل البيت يتمثل في جزء من خمس غنائم الجهاد والفيء فقط، ويحث آل البيت على التحلي بأعلى درجات التقوى، وعند ذلك يضاعف أجرهم.

- هل آل البيت ملزمون بالأحكام الشرعية أم هم فوقها؟

إن آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم لهم منزلة إذا كانوا من المؤمنين أكثر من منزلة بقية المؤمنين؛ لأنهم يجمعون أمرين: الأمر الأول: الإيمان، والثاني: القرابة. وهذا هو المنهج الحق فيما يتعلق بآل البيت، فنحن نحب آل البيت، فنعطيهم حقهم من المحبة والولاية والنصرة، ولكن لا نغلو فيهم، والمقصودون بالمحبة هم أهل الإيمان منهم، وهم قُبالة شرع الله وأحكامه كبقية المؤمنين، فالناس فيه سواسية أمام الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: "والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"، هكذا يقول عن أقرب وأغلى إنسان على قلبه صلى الله عليه وسلم، فمن أخل بالتقوى وتعدى الحدود لم يفلت من حكم الشرع، فآل البيت على وجوب مودتنا لهم، وحبنا لهم، إكراماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإطاعة لما جاء في القرآن الكريم: {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى}، فآل البيت رغم ذلك لا تربطهم برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رابطة الإيمان والتقوى. أما أهل الكفر منهم فإنا لا نحبهم، بل نبغضهم، لوجود الأدلة الصريحة في بغضهم، وأوضح مثال هو أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله عز وجل يقول في حقه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}، ويقول عليه الصلاة والسلام: "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه". إذاً ثمة ميزان دقيق يتحكم في السلوك، ولا يدع للعاطفة: سواء منها البغض أو الحب، أن تتحكم فيما أوجبه الشرع من المعاملات والأخلاق أو نهى عنه، فمن باب العدل والإنصاف أن نفرِّق بين محبة آل البيت واحترامهم ونصرتهم، وبين وضع أقوالهم ومواقفهم في ميزان الشريعة، فما وافق منها الحق قبلناه، وما خالفه رددناه؛ لأنهم بشر يصيبون ويخطئون؛ فكل بني آدم خطاء، ولا معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنبياء.

- إن عقيدة أهل السنة والجماعة في آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تخرج عما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه السلف الصالح من محبة آل البيت ومودتهم ورعاية حقوقهم، كل ذلك على المنهج الشرعي؛ بلا تقصير كما فعلت الخوارج الناصبة ومن وافقهم، ولا غلو كما فعلت الرافضة ومن سلك سبيلهم، فليس من حق آل البيت الغلو فيهم، ولا اعتقاد قداستهم ولا عصمتهم، علماً بأن أهل السنة من أشد الناس بغضاً وكراهة لأن يُتعرض لأحد منهم بقتال أو سب، بل هم كلهم متفقون على أن سيدنا علي رضي الله تعالى عنه أجلّ قدراً وأفضل عند الله وعند رسوله وعند المؤمنين من جميع الصحابة إلاّ ثلاثة؛ وهم أبو بكر الصديق والفاروق عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهم، فليس في أهل السنة من يقدم عليه أحداً غير الثلاثة، بل يفضلونه على جمهور أهل بدر وأهل بيعة الرضوان، وعلى السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار.

- وليس موقف أهل السنة من محبة آل البيت محصوراً في الإمام علي- رضي الله عنه- بل إن أهل السنة يحبون ويوقرون كل آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم من غير غلو، ويبغضون من يكرههم، كما يتضح من قول ابن تيمية في شأن قتلة الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما، إذ يقول في ((مجموع الفتاوى)): "...وأما من قتل الحسين أو أعان على قتله، أو رضي بذلك، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً". ويقول أيضاً: "...والحسين رضي الله عنه قتل مظلوماً شهيداً، وقتلته ظالمون معتدون".

وقد- سئل ابن تيمية- كما في مجموع الفتاوى-  عن محبة آل البيت فقال: "محبتهم عندنا فرض واجب، يؤجر عليه … ومن أبغضهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين".

- ومما تجدر الإشارة إليه؛ أن ثمة نصوصا نتعرف من خلالها إلى كثير مما لو غاب عنا لهوينا في مهاوي الغلو والإفراط، على أنه من الثوابت التي لا يقدر الغلو مهما أوتي من قدرة على الوضع، ومهارة في تزوير النصوص أن يتجاوزها إلا ممن عميت بصيرته، فيحتاج إلى كحل الإنصاف، ومن هذه الحقائق: ثبوت بشرية الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام-، وأنهم تميزوا بما خصهم الله به، وبما منّ عليهم خصائص تتعلق بما هم عليه من النبوة، وأن هذه الخصائص مهما كثرت، وعظمت، لا تخرجهم عن البشرية بحال، والتوحيد في سطر: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، قرره عليه الصلاة والسلام أروع تقرير، وحماه حماية رائعة من كل ما يخدشه، وثبّت آثاره في السلوك أقوالاً وأفعالاً، ومن هنا وقف الرسول- عليه الصلاة والسلام- في وجه النفس التي يحملها أحياناً شدة الحب إلى المغالاة في محبوبه موقفاً واضحاً لم يأذن فيه لأحد بتأويل قد يتراخى مع الزمان فإذا بالبنيان الراسخ الشامخ الذي بناه في عالم التصور تناله فؤوس الترخص، وتعدو عليه عوادي الانحراف! ونحن نعلم أن من السنة "التقرير"، ولهذا لما سمع الرسول عليه الصلاة والسلام تعبيراً لا يليق بالتوحيد الذي جاءت به الرسالة بادر ينكر على القائل بالأسلوب: "همزة إنكار"، ومضمون خطير رصده من التعبير، فمحبة الغلو والإطراء يرفضها الرسول صلى الله عليه وسلم، إنه لما قال له رجل: (يا رسول الله! ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله نداً؟! قُل: مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ). وسدد هذا المسار بمثل قوله: (لاَ تَقُولُوا: مَاشَاءَ اللَّهُ وشَاءَ فُلانٌ، وَلَكِن قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ مَا شَاءَ فُلاَنٌ).

وفي حديث آخر: ( قام خطيب فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بئس الخطيب أنت) وما ذاك إلا لأنه أتى بضمير" هما " يريد به كلا من الله والرسول ، وأسند إليه فعل " يعص "ولو كانت معصية الرسول شرعا معصية لله تعالى !.

- ومن أمثلة السلوك الممجوج في المحبة سلوك يدعيه محب على أنه دليل على محبته يرفضه الشرع المعصوم؛ وهو الإعراض عن سور أنزلها الله تعالى لتتلى وتتدبر، فإذا بأناس يقفزون عنها، وكأنها ليست من القرآن؛ بحجة أنها تتعارض مع المحبة، ويا عجباً من هذه المحبة الغافلة التي تنبع من قلب ضيق الأفق، يسلك مسالك الهوى الذي ينعى دون أن يدري على وجود هذا الذي أعرض عنه، وهل إذا أراد ختمة - يا ترى - يقفز كذلك؟ علماً أن الفقهاء كرهوا ترك سورة بين سورتين عمداً، فكيف إذا هجرت سورة حتى الموت الحسي الذي هو دون هذا الموت المعنوي! لا أستبعد أنه يدخل في من شكا منهم الحبيب: "وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا"، إذ لا فرق بين ترك سورة أو أكثر،  وإذا كان الله- تعالى- قد أثنى على الذين يتناولون القرآن بإيمان صادق فقال: "الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ"، وأما الذين يتلقون القرآن انتقاء فهؤلاء نعى كتاب الله عليهم، فقال: "وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلُ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ"، ثم إذا كان الله تعالى - الذي يكرم رسوله قد أنزل قوله: "تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ"، وأنزل قوله: "عَبَسَ وَتَولَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى"، وقد بين العلماء عمق دلالة النصين على صدق الرسالة، وروعة تناولها للقضايا الإنسانية، وأن القرآن كلام الله تعالى، لا يد فيه للرسول- عليه الصلاة والسلام-  سوى التلقي والتبليغ، فكيف يأتي أناس قد ركبوا ظهور هواهم وأخذوا يركضون وراءه على أنه من علامات المحبة، وقد أعرضوا بالتدقيق عن كثير من الأدلة التي ساقتها الشريعة أدلة صادقة على "المحبة"!.      

- ومما أورده ابن القيم في كتابه "بدائع الفوائد" يكشف عما يوقع في "الشطح" قال: لا تستنكر استيلاء المحبوب على قلب المحب، وغلبته عليه حتى كأنه يراه، ولهذا تجدهم في خطابهم لمحبوبهم إنما يعتمدون خطاب الحضور والمشاهدة مع غاية البعد العياني لكمال القرب الروحي ... ومن كثفت طباعه فهو عن هذا كله بمعزل! وإنه ليبلغ الحب ببعض أهله أن يرى محبوبه في القرب إليه بمنزلة روحه التي لا شيء أدنى إليه منها كما قيل:

يا مقيماً مدى الزمان بقلبي ... وبعيداً عن ناظري وعياني

     أنت روحي إن كنت لست أراها ... فهي أدنى إلي من كل داني 

وإنه ليلطف شأن المحبة حتى يرى أنه أدنى إليه وأقرب من روحه، وهذه أبيات تلم بذلك:

وأدنى إلى الصب من نفسه ... وإن كان عن عينه نائياً

ومن كان مع حبه هكذا ... فأنى يكون له ساليا

ثم يلطف شأنها ويقهر سلطانها حتى يغيب المحب بمحبوبه عن نفسه فلا يشعر إلا بمحبوبه ،... ومن هنا نشأت "الشطحات" التي مصدرها عن قوة الوارد وضعف التمييز، فحكم صاحبها فيها الحال على العلم، وجعل الحكم له، وعزل علمه من البين، والمحفوظون حكموا فيها حاكم العلم على سلطان الحال، وعلموا أن كل حال لا يكون العلم حاكماً عليه فإنه لا ينبغي أن يغتر به، ولا يسكن إليه إلا كما يساكن المغلوب المقهور لما يرد عليه مما يعجز عن دفعه، وهذه حال الكمَّل من القوم الذين جمعوا بين نور العلم وأحوال من المعاملة فلم تطفئ عواصف أحوالهم نور علمهم ولم يقصر بهم علمهم عن الترقي إلى ما وراءه من مقامات الإيمان والإحسان، فهؤلاء الراسخون بفضل الله تعالى في مدارج الترقي! ومن عداهم فمحجوب بعلم لا نفوذ له فيه، أو مغرور بحال لا علم له بصحيحه من فاسده، فالكامل من يحكم العلم على الحال، فيتصرف في حاله بعلمه، ويجعل العلم بمنزلة النور الذي يميز به الصحيح من الفاسد، لا من يقدح في العلم بالحال، ويجعل الحال معياراً عليه وميزاناً ، فما وافق حاله من العلم قبله، وما خالفه رده ونفاه، فهذا أصل الضلال في هذا الباب بل الواجب تحكيم العلم والرجوع إلى حكمه وبهذا أوصى العارفون من الشيوخ، وحرضوا على العلم أعظم تحريض، لعلمهم بما في الحال المجرد عنه من الغوائل والمهالك: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.

- وهذا نموذج رائع  لأبعاد الصلة بين المسلم ومن كان من آل البيت، والتي لا تعدو الاحترام المتبادل، وما يدل على المحبة؛ كتقبيل اليد من زيد لابن عباس- رضي الله عنهما - في المشهد التالي:

لما أراد زَيْدٌ يوماً الركوب أَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِرِكَابِه، وَقَالَ: "هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا وَكُبَرَائِنَا". وروي أنه قال: "هكذا أمرنا أن نصنع بفقهائنا". فقبل زيد يده وقال: "هكذا أمرنا أن نصنع بأشرافنا". وفي رواية قال: "هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم". فابن عباس سلك مع زيد المسلك الذي يليق بعالم رباني، فأخذ "بركابه" يعينه على الركوب بيسر، وزيد أخذ بيد ابن عباس يقبل يده، وعلل ذلك بأنه من أهل البيت! أفهناك مسلم موفق يتهم هذين الجليلين اللذين تربيا في أحضان الفهم السليم للمعاني الإسلامية الصائبة، والسلوك الأمثل، بأنهما قصرا في التعبير عن المحبة، وما دريا أبعاد الاحترام، ثم يبتكر من السلوكيات والاعتقادات ما يزعم به أنه من محبة "آل البيت" الأطهار؟!                                                                                   

- لكن هناك من غالى في مسألة محبة آل البيت مغالاة وظفها لطعن الإسلام في حقائقه، وساعد على ذلك أنه حين يدعو إلى محبة آل البيت لا يدعو إلى جديد أو غريب عن فكر المسلم وعاطفته، حيث لا ينكر أمر المحبة مسلم، ولو كان عاصياً، وقد أدخل التورم في مضمون المحبة عبر أساطين الضلالة، مسلكاً يجنح بصاحبه فيخرج به عن الجادة؛ وهو الحب المفرط أو البغض المفرط. ولقد روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قوله : «يهلك فيَّ رجلان : مفرط في حبي، ومفرط في بغضي» .وروي عن الحسن بن علي - رضي الله عنه - أنه قال لرجل يغلو فيهم: «ويحك! أحبونا لله؛ فإن أطعنا الله فأحبونا، وإن عصينا الله فأبغضونا، ولو كان الله نافعاً أحداً بقرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إيمان لنفع عمه أبا لهب! قولوا فينا الحق؛ فإنه أبلغ فيما تريدون، ونحن نرضى منكم».                                                                                           

ومن البذور الأولى لمسلك الضلال في هذا الشأن ما كان من أمر عبدالله بن سبأ - يهودي من يهود اليمن - أظهر الإسلام وأبطن الكفر، واجتمع حوله طائفة على شاكلته، فادعوا محبة آل البيت، ثم غلوا في محبتهم، ثم ادعوا الألوهية في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فاستتابهم علي رضي الله عنه، وأجج النار فأحرق من ألهه منهم.                                                                              

ومن بذور الضّلال أيضاً المختار الثقفي؛ كان ممن استغل قضية المحبة هذه، فأظهر محبة آل البيت ودعا الناس إلى الثأر من قتلة الحسين؛ فقتل كثيراً من الناس تحت هذه الراية "لبيك يا حسين"!!! إنه خرج في أول خلافة ابن الزبير رضي الله عنه ،  بمن تابعه فقاتل المسلمين الذين لم يتابعوه على ما أراد ، وغلب على الكوفة ، فانخدع به العامة، ثم ادعى النبوة وزعم أن جبريل يأتيه. تعطر بعطر المحبة، ثم طرح ما بباطنه من نجاسات الضلالة!.أوجدت فرقا بين موقف علماء أهل السنة من " آل البيت " رضي الله عنهم ، وبين كثيرين ممن تردى برداء المحبة ، وباطنه قد امتلأ بالضلال ؟ ولأي الفريقين تؤيد بالدليل البين ؟

وبهذا يتبين لكل منصف أن المسألة عند البعض ليست في حب آل البيت فحسب، وإنما ادعاء المحبة عندهم لا تعدو ستاراً يخفي وراءه ما يخفي من مضلات الفتن! ومنها اشتراط أنه لا تصح محبتهم إلا ببغض الصحابة رضي الله عنهم الذين بلغوا دين الله إلى مشارق الأرض ومغاربها، فأي ضلال أشرَّ من هذا الضلال. نسأل الله تعالى العافية.

- أوجه الغلو في محبة آل البيت رضي الله عنهم!

 الوجه الأول: جعل محبة آل البيت مقترنة اقتراناً ضرورياً بسب الصحابة وانتقاصهم، بل وتكفيرهم، وكأنه لا تثبت هذه المحبة إلا بانتقاص من تربوا في مدرسة خاتم المرسلين عليه الصلاة والسلام !! .

الثاني: جعل آل البيت في منزلة أعلى من المنزلة البشرية المعتادة، فإنهم جعلوا بعض آل البيت يحيطون بالغيب علماً، ويوصفون بصفات لو استمعت إليها بعد المقدمة لما ذهب الخاطر إلا إلى أنها صفات لله تعالى! أجل؛ يطلقون كلاماً في أوصاف علي بن أبي طالب وفي أوصاف أولاده لا تجوز أن تقال إلا لله سبحانه وتعالى، إذ ينسبون لهم الرزق، و إحياء الموتى، ولهم العلم بذرات الكون، و لهم تدبير هذا الكون، وكأن الله عز وجل قد جعل إليهم أمره!

الثالث: رؤية أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكمل الشريعة للناس، مخالفة منهم لقول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا}، وقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى من الشريعة ما يحتاجه الناس في زمانه، ثم أودع البقية عند علي بن أبي طالب، فقام علي بن أبي طالب بإعطاء ما يحتاجه الناس، ثم أودع البقية عند الحسن، وهكذا حتى آخر إمام من أئمتهم، وهو الذي غاب، ولم يزل في غيبته!.

الرابع :اعقاد أن الأئمة من آل البيت معصومون، وأن كلامهم تشريع، وأن ما يتكلمون به هو جزء أساسي من الشريعة كالقرآن وكالسنة النبوية الصحيحة، فجعلوا شركاء مع الله سبحانه وتعالى ومع النبي في التشريع.

ختاماً؛ أيها السائل عن محبة آل البيت، جنح بنا الحديث إلى من وظف المحبة توظيفا هداماً، والميزان العادل يقوم على أن المحبة ثمرة للإيمان، وحيث كانت كذلك؛ فلا يفهم أن تفضي هذه الثمرة إلى اجتثاث الشجرة، أو إيذائها في ثمراتها، فاعرف يا أخي حقوقهم، والتزم حبهم، وتشرف بقربهم، والترضي عليهم، واعلم أن كرامة الجمع بين محبة آل البيت والصحابة الكرام لم تكتمل وتسْلم إلا لأهل السنة والجماعة من المسلمين، واعلم أن معرفة آل البيت هي معرفة مكانهم من النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا عرفتهم بذلك عرفت وجوب حقهم وحرمتهم بسببه، فهم الذين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم، ولزوم منهجهم، ونحن نتولى آل البيت بالحب والتقدير والإعزاز والمودة والاتباع والاقتداء بمثل ما أمرنا الله عز وجل، وبمثل ما أوصانا سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وبالكيفية التي أحبهم بها الصحابة رضي الله تعالى عنهم دون إفراط أو تفريط.