ما قصة تأبير النخل ؟ وما دلالتها على مسألة العصمة التي...
تاريخ الإضافة : 2012-12-07 15:14:59
ما قصة تأبير النخل ؟ وما دلالتها على مسألة العصمة التي تغطي كل ما يصدر عن المعصوم من أقوال وأفعال وتقريرات ؟

بداية نقدم بين يدي البيان النص الذي نقل إلينا مسألة التأبير برواياته إذ ورد بروايات متعددة ، وإن اتفقت في التأبير موضوعنا لنتمكن من الإحاطة بالموضوع :

* عن موسى بن طلحة ، عن أبيه رضي الله عنه ، قال : « كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بقوم في رءوس النخل ، فقال : «ما يصنع هؤلاء ؟ قلت : يلقحونه يجعلون الذكر في الأنثى ، قال :  ما أظن ذلك يغني شيئا ، فتركوه ، فأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن كان ينفعهم فليفعلوه ، فإني إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن ، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوه ، فإني لن أكذب على الله » * وعن عائشة « أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قوم في رءوس النخل ، فقال : ما يصنع هؤلاء ؟ قالوا : يؤبرون النخل ، قال : لو تركوه لصلح ، فتركوه ، فشيص ، فقال : ما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم بأمر دنياكم ، وما كان من أمر دينكم فإلي» الشيص: التمر الذى لا يشتد نواه، وإنما يتشيص إذا لم تلقح النخل. وذكر أن تأبير النخل إصلاحه .

* وعن جابر بن عبد الله ، قال : « أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يلقحون ، فقال : ما للناس ؟ فقالوا : يلقحون يا رسول الله قال : لا لقاح « أو » ما أرى اللقاح شيئا ، فتركوا اللقاح ، فجاء تمر الناس شيصا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما له ، ما أنا بصاحب زرع ولا نخل ، لقحوا " بعد سوق هذه الروايات أجدني أمام ما ذكره العلماء في هذه المسألة ، وأبدأ بنقل ما جاء في كتاب :سيدنا محمد رسول الله " للشيخ عبد الله سراج الدين رحمه الله ، ففيه لفتات طيبة ن ويذيع منه نشر المحبة ، ويقرر ما ثبت لدى العلماء بادلة كثيرة من أن" رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم قال: " أما قضية تأبير النخل : فقد ورد عن أنس رضي الله عنه ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بقوم يلقحون النخل فقال : ( لو لم تفعلوا لصلح ) . قال : فخرج شيصاً . فمر بهم - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( مالنخلكم ؟ ) . قالوا : قلت كذا وكذا ! قال: ( أنتم أعلم بأمر دنياكم ) . في ( صحيح ) مسلم و ( المسند )

فمن هذا الحديث فهم بعض الناس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يخطئ في أمور الدنيا ، وراح يقول : أخطأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كذا وأخطأ في كذا !! . ولكن الحق أحق أن يتبع  ، وذلك أن أقواله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله يفسر بعضها بعضاً ، ويشبه بعضها بعضاً ، وأن الله تعالى حفظه عن الخطأ كما حفظه من الخطيئة ، فنقول وبالله التوفيق :

أولاً : إنه - صلى الله عليه وسلم - قد نشأ في تلك الأراضي المباركة التي هي منابت النخيل ، وتربي بين قوم يعلمون فنون زوع النخيل ، ومايتطلبه من عنايات ولقاحات ، وكيف يتصور في حقه - صلى الله عليه وسلم - أن تخفى عليه تلك العادة المطردة في إنتاج النخيل ، ولزوم التلقيح له بموجب الأصول الزراعية ؟ في حين أن ذلك ليس من خفايا معلومات الزراعة لشجر النخيل ، ولا من غوامضها ،إذًا لابد وأنه يعلم ذلك كما يعلمون،ولكن أراد أن يظهر لهم أمرا لايستطيعون نيله بأنفسهم .

ثانياً : إن الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - الذي نال من العلوم مانال ، وأفاض الله تعالى عليه ماأفاض ، حتى أنه ذكر للصحابة وبحث لهم في كل شيء . كما روى الطبراني عن أبي ذر رضي الله عنه قال : ( تركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وماطائر يقلب جناحيه في الهواء ، إلا وهو ذكر لنا منه علماً ) . فكيف يتصور أنه يخفى عليه - صلى الله عليه وسلم - أن النخيل لايحتاج إلى تلقيح بمقتضى العادة في علم الزراعة ؟ ولكن رسول الله  صلى الله عليه وسلم - أراد أمراً آخر .

ثالثاً : إن الذي يدلنا على ذلك الأمر الآخر الذي أراده - صلى الله عليه وسلم - هو النظر في أشباه هذه الواقعة الصادرة منه - صلى الله عليه وسلم - ، ومن ذلك حديث : ( ناولني الذراع ) .

فعن أبي رافع([1]) قال : صنع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شاة مصلية فأتي بها فقال : ( ياأبا رافع ناولني الذراع)([2]) فناولته . ثم قال : ( ناولني الذراع ) فناولته . ثم قال : ( ناولني الذراع ) فقال : يارسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل للشاة إلا ذراعان ؟! .

فقال - صلى الله عليه وسلم - ( لو سكت لناولتني منها ذراعاً مادعوت به ) (في المسند).

قال : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعجبه الذراع .

قال في ( مجمع الزوائد ) : رواه أحمد الطبراني من طرق ، وقال في بعضها : أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ان أصلي له شاى فصليتها . ورواه في ( الأوسط ) باختصار ، وأحد إسنادي أحمد حسن .وعن أبي عبيد ([3]) أنه : طبخ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - قدراً فيها لحم .

فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ناولني ذراعها ) فناولته . فقال : ( ناولني ذراعها ) . فقال : يانبي الله كم للشاة من ذراع ؟!. فقال له - صلى الله عليه وسلم - : ( والذي نفسي بيده لو سكت لأعطيت ذراعاً مادعوت به ) .

وهذه القصة غير التي تقدمت ، كما نبه عليه الحافظ الزرقاني وغيره .

وفي ( مجمع الزوائد ) عن ابن إسحاق قال : حدثني رجل من بني غفار ، في مجلس سالم بن عبدالله ، قال : حدثني فلان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بطعام : خبز ولحم . فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( ناولني الذراع) فنوول ذراعاً فأكله . ثم قال : ( ناولني الذراع ) فنوول ذراعاً فأكله . ثم قال : ( ناولني الذراع ) فقال : يارسول الله إنما هما ذراعان ! فقال : ( وأبيك لو سكت مازلت أناول منها ذراعاً مادعوت به ) . قال : ورواه أحمد وفيه راو لم يسم .

فقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ناولني الذراع ) في المرة الثالثة - مع العلم أن الشاة لها ذراعان - إنما أراد أن يظهر أمراً معجزاً فيه الإكرام ، وفيه البرهان ، وفيه الإشهاد بالعيان ، ولكن لما لم يجد محلاً قابلاً ، لم تظهر تلك المعجزة .

ولذلك قال الحافظ الزرقاني عند قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أما إنك لو سكت لناولتني ذراعاً فذراعاً ماسكت ) - أي : مدة سكوتك ، لأنه سبحانه يخلق فيها ذراعاً فذراعاً ، معجزة له - صلى الله عليه وسلم - فحملت المناول عجلته المركبة في الإنسان على قوله : إنما للشاة ذراعان ، فانقطع المدد ، لأنه إنما كان من مدد الكريم سبحانه ، إكراماً لخلاصة خلقه - صلى الله عليه وسلم - ، فلو تلقاه المناول بالأدب ، ساكتاً مصغياً إلى ذاك العجب : لكان شكراً منه مقتضياً لتشريفه بإجراء هذا المدد على يديه ، ولكنه تلقاه بصورة الإنكار ، فرجع الكرم مولياً ، لما لم يجد قابلاً ، إذ لايليق لمشاهدة هذه المعجزة العظيمة - إذ في شهودها نوع تشريف للمطلع عليها - إلا لمن كمل تسليمه ولم يبق فيه أدنى حظ ولا إرادة .  

وهكذا في حادثة تأبير النخل ، لما مر - صلى الله عليه وسلم - بقوم يؤبرون النخل ، أراد أن يكرمهم ويتحفهم ، وأن يظهر لهم معجزة خارقة للعادة المطردة في إصلاح النخيل بالتأبير ، فيكرمهم خاصة بصلاحه دون تأبير ، إذ هو - صلى الله عليه وسلم - ممن يعلم بموجب العادة حاجة النخيل إلى تأبير كما يعلمون ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - بينهم مطلع على أمورهم . ولكن لما لم تقبل قلوب بعض أولئك النفر ، ولم تستسلم كل الاستسلام إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لو لم تفعلوا - أي : التأبير - لصلح ) بل وقفوا عند معلوماتهم الدنيوية المطردة من فن زراعة النخيل ، وأن صلاحه موقوف على التأبير ، فلم يلق الكرم محلاً قابلاً فرجع . ولذلك ردهم - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك إلى الأسباب المعتادة لديهم ، المعلومة عندهم التي وقفوا عندها ولم يجاوزوها فقال لهم : ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) - أي : فارجعوا إلى العمل بموجب علمكم بأمور دنياكم . ويشهد لصحة ماقلناه ، وصواب مافهمناه ، من أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يخطئ في ذلك ، قول الشيخ العارف بالله تعالى ، صاحب ( الإبريز ) نفعنا الله تعالى بمعارفه ، حين سئل عن حديث تأبير النخل ؟ فقال رضي الله عنه : قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لو لم تفعلوا لصلحت ) كلام حق ، وقول صدق ، وقد خرج منه هذا الكلام على ماعنده من الجزم واليقين بأنه تعالى هو الفاعل بالإطلاق ، وذلك الجزم مبني على مشاهدة سريان فعله تعالى في سائر الممكنات مباشرة بلا واسطة ولاسبب ، بحيث إنه لاتسكن ذرة ، ولاتتحرك شعرة ، ولايخفق قلب ، ولايضرب عرق ، ولاتطرف عين ، ولايومئ حاجب ، إلا وهو تعالى فاعله مباشرة من غير واسطة .

وهذا أمر يشاهده النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يشاهد غيره وسائر المحسوسات ، ولايغيب ذلك عن نظره لا في اليقظة ولا في المنام ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لاينام قلبه الذي فيه هذه المشاهدة ، ولاشك أن صاحب هذه المشاهدة تطيح الأسباب من نظره ، ويترقى عن الإيمان بالغيب إلى الشهود والعيان ، فعنده من قوله تعالى : ( والله خلقكم وماتعملون ) مشاهدة دائمة لاتغيب ، ويقين يناسب هذه المشاهدة ،وهو أن يجزم بمعنى الآية جزماً لايخطر معه بالبال نسبة الفعل إلى غيره تعالى ، ولو كان هذا الخاطر قدر رأس النملة . قال : ولاشك أن هذا الجزم الذي يكون على هذه الصفة ، تخرق به العوائد ، وتنفعل به الأشياء ، وهو سر الله تعالى الذي لايبقى معه سبب ولا واسطة . فصاحب هذا المقام إذا أشار إلى سقوط الأسباب ، ونسبة الفعل إلى رب الأرباب كان قوله حقاً ، وكلامه صدقاً . قال : وأما صاحب الإيمان بالغيب فليس عنده في قوله تعالى : ( والله خلقكم وماتعملون ) مشاهدة ، بل إنما يشاهد نسبة الأفعال إلى من ظهرت على يده ، ولا يجذبه إلى معنى الآية ونسبة الفعل إليه تعالى إلا الإيمان الذي وهبه الله تعالى ، فعنده جاذبان :

أحدهما : من ربه وهوالإيمان الذي يجذبه إلى الحق .

وثانيهما : من طبعه وهو مشاهدة الفعل من الغير الذي يجذبه إلى الباطل .

فهو بين هذين الأمرين دائماً ،لكن تارة يقوى الجاذب الإيماني ، فتجده يستحضر معنى الآية السابقة ساعة وساعتين ، وتارة يقوى الجاذب الطبيعي فتجده يغفل عن معناه اليوم واليومين ، وفي أوقات الغفلة ينتفي اليقين الخارق للعادة . فلهذا لم يقع ماأشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن - أولئك النفر - من الصحابة رضي الله عنهم فاتهم اليقين الخارق وقتئذ ، الذي اشتمل عليه باطنه - صلى الله عليه وسلم - ، وبحسبه خرج كلامه الحق ، وقوله الصدق - صلى الله عليه وسلم - .

ولما علم - صلى الله عليه وسلم - العلة في عدم وقوع ماذكره - لهم - وعلم أن زوال تلك العلة ليس من طوقهم رضي الله عنه - وقتئذ - أبقاهم على حالتهم ، وقال : ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ) كلام "الأبريز "

وعلى كل حال فإنه لايقال : أخطأ - صلى الله عليه وسلم - في قصة تأبير النخلة ، كما لايقال : إنه - صلى الله عليه وسلم - أخطأ في قوله لأبي عبيد : ( ناولني الذراع ) في المرة الثالثة ، فإن ذلك ليس من باب الخطأ ، بل من باب الصواب ، وإرادة الإكرام والإتحاف لأولئك النفر ، بأمر فيه اليمن والبركة على وجه خارق للعادة ، ولكن تخلف ذلك لوجود المانع والعارض .

ونظير هذا : انقطاع مدد الإكرام والبركة من ظرف السمن ، الذي بارك فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عصرته أم مالك ، كما جاء عن جابر رضي الله عنه ، أن أم مالك الأنصارية كانت تهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - من عكة لها سمناً ، فيأتيها بنوها فيسألونها الأدم - وفي رواية : فيسألون السمن - وليس عندهم شيء ، فتعمد - أي : تقصد - إلى الظرف الذي كانت تهدي فيه ، فتجد فيه سمناً ، فما زال يقيم لها أدم بيتها حتى عصرته - أي : عصرت الظرف فنفد السمن - فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - أي : ذكرت له ذلك - . فقال - صلى الله عليه وسلم - ( عصرتيها ؟) ، قالت : نعم . قال - صلى الله عليه وسلم - : ( لو تركتيها مازال - أي : السمن - قائما ً ) في ( صحيح مسلم وغيره) ،

وعن جابر رضي الله عنه ، أن رجلاً من أهل البادية ، أتى النبي - صلى الله عليه وسلم يستطعمه ، فأطعمه شطر وسق من شعير ، فما زال يأكل منه وامرأته وضيفهما - أي : أضيافهما الذين ينزلون عندهما - حتى كاله - أي : فنقص - فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره . فقال له : ( لو لم تكله لأكلتم منه - أي : دائماً يكفيكم - وأقام لكم ) أي : مدة الحياة من غير نقص . (رواه مسلم) فالكيل العارض منع المدد الفائض . وقد بين الإمام النووي حكمة ذلك كله حيث قال : قال العلماء : الحكمة في ذلك أن عصرها وكيله ، مصادمة للتسليم والتوكل على رزق الله تعالى ، ويتضمن التدبير والأخذ بالحول والقوة ، وتكلف الإحاطة بأسرار حكم الله تعالى وفضله . فعوقب فاعله بزواله . اهـ([4]) .

قال الحافظ الزرقاني : ولايعارض هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه ) لأنه فيمن يخشى الخيانة ، أو كيلوا ماتخرجونه للنفقة لئلا يخرج أكثر من الحاجة أو أقل ، بشرط بقاء الباقي مجهولاً ، أو كيلوا عند الشراء ، أو عند إدخاله المنزل .

اما قضية الحباب بن المنذر يوم بدر : فهي كما روى ابن إسحق([5]) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يبادرهم إلى الماء ، حتى جاء إلى ماء في بدر ، فنزل به . فقال الحباب بن المنذر : يارسول الله هذا منزل أنزلكه الله ، لاتتقدمه ولاتتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فقال = صلى الله عليه وسلم - : ( بل هو الرأي والحرب والمكيدة ). فقال الحباب : فإن هذا ليس بمنزل ، فانهض بالناس ، حتى تأتي ادنى ماء من القوم فنزل ثم نغور([6]) ماوراءه من الطلب ، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤها ماء ، فنشرب ولايشربون - أي : المشركون - . فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( أشرت بالرأي ) . وعند ابن سعد : فنزل جبريل فقال : ( الرأي ماأشار به الحباب ) .

فليس في هذا الحديث مايدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مخطئا ً في رأيه ، لأن هذه الواقعة لست من باب إلزام القضية أو التزامها ، إنما هي من باب عرض القضية ، لإبداء رأي أهل الرأي والخبرة في ذلك ، على عادته = صلى الله عليه وسلم - من عرضه أمثال هذه الأمور على أهل الرأي من الصحابة ، ومشاورتهم فيها .

وليس ذلك من باب أنه رأي رآه  = صلى الله عليه وسلم - واستحسنه والتزمه ، وراح يحمل الناس عليه ويلزمهم به ! بل من باب عرض القضية للرأي والمشاورة . ويدل على ذلك صريح قوله = صلى الله عليه وسلم - للحباب : ( أشرت بالرأي ) فكان موقفه - صلى الله عليه وسلم - موقف المستشير الذي عرض القضية ولم يلتزمها ، ولو أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى ذلك أو التزام ذلك لحمل الصحابة على ذلك ولاستمر على ذلك - صلى الله عليه وسلم - . " انتهى النقل بتصرف لا يكاد يذكر . 

وهنا ألفت إلى دقة تعبيره - عليه الصلاة والسلام " حيث قال : " أنتم أعلم بأمور دنياكم " " ومعلوم أن صيغة " أفعل " للتفضيل ، وتقتضي اشتراك أمرين في صفة ما ، ويزيد أحدهما على الآخر فيها ، ومرماه أنه ما نفى صلى الله عليه وسلم عن نفسه العلم " بالدنيا " ولكن بين أن القوم في المسألة التي هو بصددها لهم خبرة عملية أكبرفيها . 

ثم أنقل هنا توجيه آخر للعلماء بشأن التأبير ، إذ قالوا : وقد صرح علماء الأصول بجواز الخطأ فى الاجتهاد على الأنبياء . عليهم الصلاة والسلام : قالوا : ولكن لا يقرهم الله على ذلك ، بل يبين لهم الصواب فيه    عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) وهنا لفتة رائعة دقيقة تتمثل في أن جواز وقوع الخطأ في الاجتهاد لا يسوغ تبنيه لتعطيل كل ما قرره عليه الصلاة والسلام بعامة بهذه الحجة ، وذلك أن ما قرره ، ولم يعقب عليه به صار بريئا من هذا الاحتمال ، لأنه لا يقر على خطأ على فرض وقوعه ! قال ابن كثير . قال مجاهد . نزلت هذه الآية فى أناس قالوا : استأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن أذن لكم فاقعدوا . وإن لم يأذن لكم فاقعدوا .والعفو : يطلق على التجاوز عن الذنب أو التقصير ، كما يطلق على ترك المؤاخذة على عدم فعل الأولى والأفضل ، وهو المراد هنا .والمعنى : عفا الله عنك يا محمد ، وتجاوز عن مؤاخذتك فيما فعلته مع هؤلاء المنافقين من سماحك لهم بالتخلف عن الجهاد معك فى غزوة تبوك ، حين اعتذروا إليك بالأعذار الكاذبة ، وكان الأولى بك أن تتريث وتتأنى فى السماح لهم بالتخلف ، حتى تيبين لك الذين صدقوا فى اعتذارهم من الذين كذبوا فيه ، فقد كانوا - إلا قليلا منهم - كاذبين فى معاذيرهم ، وكانوا مصرين على القعود عن الجهاد حتى ولو لم تأذن لهم به .وقدم سبحانه . العفو على العتاب . وهو قوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } - للإِشارة إلى المكانة السامية التى له - صلى الله عليه وسلم - عند ربه . قال بعض العلماء : هل سمعتم بعتاب أحسن من هذا؟ لقد خاطبه سبحانه بالعفو قبل أن يذكر المفعو عنه .

وقال العلامة أبو السعود ما ملخصه : وعبر - سبحانه - عن الفريق الأول بالموصول الذى صلته فعل دال على الحدوث ، وعن الفريق الثانى باسم الفاعل المفيد للدوام ، للإِيذان بأن ما ظهر من الأولين صدق حادث فى أمر خاص غير مصحح لنظمهم فى سلك الصادقين ، وبأن ما صدر من الآخرين ، وإن كان كاذباً حادثاً متعلقاً بأمر خاص لكنه أمر جار على عادتهم المستمرة ، ناشئ عن رسوخهم فى الكذب .

وعبر عن ظهور الصدق بالتبين ، وعما يتعلق بالكذب بالعلم ، لما هو المشهور من أن مدلول الخبر هو الصدق ، والكذب احتمال عقلي ، فظهور صدق الخبر إنما هو تبين ذلك المدلول ، وانقطاع احتمال نقيضه بعدما كان محتملا له احتمالا عقلياً ، وأما كذبه فأمر حادث لا دلالة للخبر عليه فى الجملة حتى يكون ظهوره تبيناً له ، بل نقيض لمدلوله . فما يتعلق به يكون علما مستأنفاً هذا ، ومن الأمور التى تكلم عنها العلماء عند تفسيرهم لهذه الآية ما يأتى :

1- أن النبى - صلى الله عليه وسلم - كان يحكم بمقتضى اجتهاده فى بعض الوقائع . وقد بسط القول فى هذه المسألة صاحب المنار فقال ما ملخصه :

وقد كان الإِذن المعاتب عليه اجتهاداً منه - صلى الله عليه وسلم - فيما لا نص فيه من الوحى ، وهو جائز وواقع من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم . وليسوا بمعصومين من الخطأ فيه ، وإنما العصمة المتفق عليها خاصة بتبليغ الوحى ببيانه والعمل به ، فيستحيل على الرسول أن يكذب أو أن يخطئ فيها يبلغه عن ربه أو يخالفه بالعمل .

وكذلك ظن النبي كما قال في تأبير النخل : ( إنما ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله فإني لن أكذب على الله ) ، فاستيئاس عمر وغيره من دخول ذلك هو استيئاس مما ظنوه موعودًا به، ولم يكن موعودًا به .

ومثل هذا لا يمتنع على الأنبياء أن يظنوا شيئًا فيكون الأمر بخلاف ما ظنوه فقد يظنون فيما وعدوه تعيينًا وصفات ولا يكون كما ظنوه، فييأسون مما ظنوه في الوعد، لا من تعيين الوعد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( رأيت أن أبا جهل قد أسلم، فلما أسلم خالد ظنوه هو، فلما أسلم عكرمة علم أنه هو ) . وفي الحديث المذكورعن  طلحة بن عبيد الله، قال : مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم على رؤوس النخل، فقال : ( ما يصنع هؤلاء ؟ ) فقال : يلَقِّحُونه يجعلون الذكر في الأنثى فَتَلْقَحُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أظن يغني ذلك شيئًا ) فأخبروا بذلك فتركوه . فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : ( إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإنني / ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حَدَّثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله ) .فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا حدثنا بشيء عن الله أن نأخذ به فإنه لن يكذب على الله، فهو أتقانا للّه، وأعلمنا بما يتقي، وهو أحق أن يكون آخذًا بما يحدثنا عن اللّه، فإذا أخبره اللّه بوعد كان علينا أن نصدق به، وتصديقه هو به أعظم من تصديقنا، ولم يكن لنا أن نشك فيه، وهو ـ بأبي ـ أولى وأحرى ألا يشك فيه، لكن قد يظن ظنًَا، كقوله : ( إنما ظننت ظنًا فلا تؤاخذوني بالظن ) ، وإن كان أخبره به مطلقًا فمستنده ظنون، ولا يضر أيضاً خروج الأمر على خلاف ما يظنه عليه الصلاة والسلام 

وقال بعض العارفين لا يلزم لمن كان كامل زمانه أن يكون له التقدم في كل شيء وفي كل مرتبة كما أشار إليه عليه السلام بقوله في قصة تأبير النخل "أنتم أعلم بأمور دنياكم" وَكَمَا عَاتَبَهُ فِي الْإِعْرَاضِ عَنِ الْأَعْمَى الْمُسْتَرْشِدِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ : عَبَسَ وَتَوَلَّى [80 : 1] إلخ ، وَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَا يَقُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَحْضَةِ كَالْعَادَاتِ ، وَالزِّرَاعَةِ ، وَنَحْوِهَا ; وَلِذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَسْأَلَةِ تَأْبِيرِ النَّخْلِ : أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ كَمَا فِي الصَّحِيحِ . وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ اتِّبَاعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ مِنْ بَيَانِ الدِّينِ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا عَلَى لِسَانِهِ ، وَكَذَا اتِّبَاعُهُ فِي أَحْكَامِهِ الِاجْتِهَادِيَّةِ ، فَإِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ وَبِطَاعَتِهِ ، وَأَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنْهُ ، وَقَالَ لَهُ : (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (16 : 44) وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ الْوَارِدَةَ فِي السُّنَّةِ مُوحًى بِهَا ، وَأَنَّ الْوَحْيَ لَيْسَ مَحْصُورًا فِي الْقُرْآنِ ، وَالْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ : إِنَّهَا مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ .

وقالوا :قال- تعالى- :مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ أَيْ : إِنَّ الرَّسُولَ هُوَ رَسُولُ اللهِ ، فَمَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ رَسُولٌ فَهُوَ مِنَ اللهِ ، وَهُوَ الْعِبَادَاتُ وَالْفَضَائِلُ ، وَالْأَعْمَالُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ الَّتِي تُحْفَظُ بِهَا الْحُقُوقَ ، وَتُدْرَأُ الْمَفَاسِدُ ، وَتُحْفَظُ الْمَصَالِحُ ، فَمَنْ أَطَاعَهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ لَهُ عَنِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ، فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ اللهَ - تَعَالَى - لَا يَأْمُرُ النَّاسَ وَيَنْهَاهُمْ إِلَّا بِوَاسِطَةِ رُسُلٍ مِنْهُمْ ، يَفْهَمُونَ عَنْهُمْ مَا يُوحِيهِ اللهُ إِلَيْهِمْ لِيُبَلِّغُوهُ عَنْهُ ، وَأَمَّا مَا يَقُولُهُ الرَّسُولُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ ، وَمَا يَأْمُرُ بِهِ مِمَّا يَسْتَحْسِنُهُ بِاجْتِهَادِهِ وَرَأْيِهِ مِنَ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْعَادَاتِ ، وَمَا يُسَمِّيهِ الْعُلَمَاءُ أَمْرَ الْإِرْشَادِ ، فَطَاعَتُهُ فِيهِ َإِنَّمَا تَكُونُ مِنْ كَمَالِ الْأَدَبِ وَقُدْوَةِ الْحُبِّ ، وقالوا : طَاعَةُ الرَّسُولِ هِيَ طَاعَةُ اللهِ بِعَيْنِهَا ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَأْمُرُنَا بِمَا يُوحِيهِ إِلَيْهِ اللهُ مِنْ مَصَالِحِنَا الَّتِي فِيهَا سَعَادَتُنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ طَاعَةَ الرَّسُولِ مَعَ طَاعَةِ اللهِ لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ قَبْلَ الْيَهُودِيَّةِ ، وَبَعْدَهَا ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ إِلَى الْيَوْمِ : أَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَغْنِيَ بِعَقْلِهِ ، وَعِلْمِهِ عَنِ الْوَحْيِ ، يَقُولُ أَحَدُهُمْ : إِنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّ لِلْعَالَمِ صَانِعًا عَلِيمًا حَكِيمًا ، وَأَعْمَلُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا يَصِلُ إِلَيْهِ عَقْلِي مِنَ الْخَيْرِ وَاجْتِنَابِ الشَّرِّ . وَهَذَا خَطَأٌ مِنَ الْإِنْسَانِ ، وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَمَا كَانَ فِي حَاجَةٍ إِلَى الرُّسُلِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ مُحْتَاجٌ بِطَبِيعَتِهِ النَّوْعِيَّةِ إِلَى هِدَايَةِ الدِّينِ ، وَأَنَّهَا هِيَ الْهِدَايَةُ الرَّابِعَةُ الَّتِي وَهَبَهَا اللهُ لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ هِدَايَةِ الْحَوَاسِّ وَالْوِجْدَانِ وَالْعَقْلِ . فَلَمْ يَكُنِ الْعَقْلُ فِي عَصْرٍ مِنْ عُصُورِهِ كَافِيًا لِهِدَايَةِ أُمَّةٍ مِنْ أُمَمِهِ ، وَمُرَقِّيًا لَهُ بِدُونِ مَعُونَةِ الدِّينِ .فذلك لا يقدح في مقام الكامل لأن التفرد بكل كمال لحضرة الألوهية والربوبية ، وما سواه وسيم بالعجز والنقص ولكل أحد اختصاص من وجه في الكمال الخاص كموسى والخضر عليهما السلام وإن كان الكليم أفضل زمانه كسليمان عليه السلام فانظر سر الاختصاص في قوله : {فَفَهَّمْنَـاهَا سُلَيْمَـانَ} (الأنبياء : 79) مع الخليفة أبيه داود حين اختلف رجل وامرأة في ولد لهما أسود فقالت المرأة : هو ابن هذا الرجل وأنكر الرجل فقال سليمان : هل جامعتها في حال الحيض؟ فقال : نعم قال : هو لك وإنما سود الله وجهه عقوبة لكما فهذا من باب الاختصاص.

 وقال قائل : فيما رويتم اضطراب شديد! فمن ذلك ما في حديث طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"ما أظن ذاك يغني شيئا" . وفي حديثي عائشة وأنس أنه قال :" لو تركوه لصلح" . وفي حديث جابر" لا لقاح أوما أرى اللقاح شيئا " فما وجه ذلك ؟ فكان الجواب على ما ذكره أناس نسوقه كما نسوق غيره لنستكمل الأجوبة ونخلص إلى ما يضبط الجواب الشافي ، فقال :إنه قد يحتمل أن يكون الذي كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك أن الإناث في غير بني آدم لا تأخذ من الذكران شيئا ، وهو الذي يغلب على القلوب ، ولم يكن ذلك منه صلى الله عليه وسلم إخبارا عن وحي ، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان يعاني ذلك ولا من بلد يعانيه أهله ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما بلده مكة ، ولم تكن دار نخل يومئذ ، وإنما كان النخل فيما سواها من المدينة التي صار إليها صلى الله عليه وسلم ، وكان مع أهلها من معاناة النخل والعمل ما يصلحها ما ليس مثله مع أهل مكة ، وكان القول في الأمر الذي قال : فيه ما قال : واسعا له أن يقول فيه، و يكون ذلك القول منه على الظن به ، فقال : صلى الله عليه وسلم ما حكاه عنه طلحة لبعض من رآه يعاني اللقاح ثم قال : ما حكته عنه عائشة وأنس في قوم آخرين ممن رآهم يعانون التلقيح ، وقال : ما في حديث جابر لقوم آخرين ، وأنهم يعانون التلقيح ، فحكى كل من سمعه صلى الله عليه وسلم يقول : شيئا مما سمعه يقوله ، وكلهم صادق فيما حكاه عنه ، وكل أقواله التي قالها صلى الله عليه وسلم مما حكاه عنه هؤلاء القوم كما قال : وبالله التوفيق   وفي سورة الأنبياء : ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ، ففهمناها سليمان ) وهذا النوع كثير في القرآن والسنة . فكذلك حديث تأبير النخل غايته أنه اجتهد فيما لم يوح إليه ، فصار الصواب في خلافه .

و قول طائفة من الناس إن الدنيويات يجوز أن يخطئ فيها إطلاقاً قول لا يقبله الصواب ،وخطوة واسعة إلى الخروج عن حدود الشريعة وتجاوزها .وإليك البيان : 

بالرجوع إلى ما جاء في حديثه عليه الصلاة والسلام ترى أن القول الفاصل فيه: أنه عليه السلام إذا قال قولا على سبيل الظن في الدين أو الدنيا فليس بلازم أن يكون صوابا ، بل يجوز عليه الخطأ . على أنه لا يقر على الخطأ بل يبين له الحق في حياته . وأما ما قاله على طريقة اليقين ، ثم لم يذكر خلافا له فليس بجائز بالمرة أن يكون خطأ سواء في الدين وأمر الدنيا . وقد قال القرآن ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما ) . وقد ثبت في الصحيح أن هذه الآية نزلت في التحاكم إليه في شئون الدنيا . وقال ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا . ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيداً ) الآية . وقد صح أن الآية نزلت في الدنيويات ، وكم من حكم في الحلال والحرام يتعلق ببناء الأسرة ، والمعاملات ، والبيوع ،والعقود الدولية ، حتى غطت أحكام الحلال والحرام ساحة الحياة كلها ، تجد ذلك في أسفار الفقه ، والحظر والإباحة ، أفلا يدل هذا على تغطية الشريعة لكل شؤون الحياة ؟!هذا ، وقد قتل عمر بن الخطاب من لم يرض حكمه عليه السلام فيها . وقد قال ( والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) . لا نحتاج أن نذكر أن الآية صريحة في أن ما يقوله عليه السلام وحي من الله بلا فرق بين أمر وأمر . وفي سورة الحشر ( ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) فبعد أن ذكر حكم الأنفال ـ وهي من الأمور الدنيوية ـ قال ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) فهل ينتهي هؤلاء بعد هذه الحقائق عن مقالتهم هذه ؟!.

 ولعل ما ورد عن العلماء في تعليل ترك التأبير على أنه لا يضر ليس من الجهالة بعالم الأسباب ، وإنما هو من باب النهوض بالهمم لتتعامل النفوس مع الله لتعطى ما هو فوق الأسباب دور إهدار لها ، وهذا ما لهج به العارف بالله حيث قال : أمرنا بالأخذ بالأسباب ، وأنها لا تؤثر بذاتها ، والأخذ بالأسباب مع اعتقاد أنها تؤثر بذاتها من الشرك ، وترك الأسباب تعطيل للحكمة ، والأخذ بها مع اعتقاد التأثير لله عندها من التوحيد ، وفوق ذلك أنه يمكن أن يخلق الله تعالى دون وجود الأسباب  

ما يشاء ، ويكون ذلك خرقا للأسباب معجزة لنبي ، أو كرامة لولي . ولعل موضوع السيدة مريم عليها السلام من هذا الضرب ن إذ شاء الله لها أن تنجب الولد دون تلقيح الرجل كما هي سنته تعالى في بني آدم عليه السلام .

 


[1] - أبو رافع الفبطي مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أسلم ومات في أول خلافة أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه . اهـ من ( شرح ) الزرقاني .

[2] - الذراع : هو اليد من كل حيوان ، ولكنه من الإنسان من طرف المرفق غلى طرف الأصبع الوسطى ، يؤنث ويذكر ، ومن البقر والغنم : مافوق الكراع ، وهو المراد هنا .اهـ من الزرقاني .