الإبانة عما قالوه عن كتاب الإبانة
تاريخ الإضافة : 2012-12-12 08:25:02
أنا طالب في كلية الحقوق جامعة القاهرة كان لي زميل من كلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر وكان يحضر معنا مادة القانون الجنائي في جامعة القاهرة لتعلقه بأستاذ المادة وكنت قد سألته على كتاب الإبانة عن أصول الديانة ونسبته لأبو الحسن الأشعري فأنكر نسبة هذا الكتاب لأبو الحسن الأشعري وبعد ذلك سمعت أستاذ في علم الحديث حاصل على الدكتوراة من جامعة الأزهر أيضاً أثبت صحة نسبة هذا لأبو الحسن الأشعري وقد قامت بحتقيق هذا الكتاب الاستاذة فوقية حسين محمود في جامعة عين شمس ولا اعرف صحة نسبة هذا الكتاب لهذا الرجل فما قولكم ؟

السلام عليكم ورحمة الله وهذه الإجابة أخذتها من كتاب لطيف جمعه كل من حمد السنان وفوزي العنجري وقد نال مجموعة من التقريظات من ثلة من العلماء المشهود لهم وجدت أنه قد وعى المسالة كلها وجاء الجواب شافيا ارسله لكم عسى ان ينفعنا الله بذلك ويتبين الصواب: قالوا ثمة مراحل مر بها أبو الحسن، ومنهامرحلة رجوعه إلى عقيد السلف وأهل السنة .

ويبنون على هذه الدعوى أن الأشاعرة اتبعوا الإمام الأشعري في مرحلته الثانية فقط وهي التي كان فيها متبعا ً لعبدالله بن سعيد ! إذ عندهم أن عبدالله بن سعيد بن كلاب ليس من أهل السنة ، وأن الأشاعرة متبعون له لا للإمام أبي الحسن لأن الإمام رجع عن عقيدة ابن كلاب في مرحلته الثالثة ، وألف على عقيدة السلف الصالح كتابه الإبانة وبعض كتبه الأخرى .

هذا تقرير هذه الدعوى ، وقبل الشروع في إثبات بطلانها تاريخيا ً وعلميا ً نفصل ماورد فيها من قضايا ، ثم تشرع في تفنيدها ، لقد تضمنت هذه الدعوى ثلاث قضايا :

* الأولى : الإمام الأشعري مر بثلاث مراحل في حياته ، الاعتزال ثم اتباعه لابن كلاب ثم أخيرا ً رجوعه إلى منهج السنة والجماعة ، وهذه هي القضية الرئيسة ، وهي تتضمن القضيتين التاليتين .

* الثانية : عبدالله بن سعيد بن كلاب ليس على منهج أهل السنة والجماعة .

* الثالثة : كتاب الإبانة يمثل المرحلة الأخيرة من حياة الإمام الأشعري ، وهي مرحلة العودة إلى طريق السلف الصالح .

وللرد على القضية الأولى : وهي مرور الإمام بثلاث مراحل أو ثلاث حالات في حياته نقول : إن الإمام الأشعري رحمه الله تعالى علم من أعلام المسلمين يشار إليه بالبنان ، وتعقد على كلماته الخناصر ، فهو ليس بنكرة من الناس ، ولا برجل مجهول يخفى على الناس أمره لاسيما في قضية مثل هذه التي نحن بصددها ، فلو كان الأمر كما  جاء في الدعوى ،و أنه مر بثلاث مراحل في حياته فلا بد أن يكون المؤرخون قد ذكروا هذا وبينوه ، ولكان - حتما ً - قد اشتهر عنه وانتشر كما ذاع وانتشر أمر رجوعه عن الاعتزال ، إذ لم يبق أحد ممن ترجم له إلا وذكر قصة صعوده المنبر وتبريه من الاعتزال ، فهل ذكر أحد من المؤرخين شيئا ً عن رجوع الإمام عن منهج عبدالله بن سعيد بن كلاب ؟

عند الرجوع إلى كتب التاريخ لانجد أي إشارة إلى هذا لا من قريب ولامن بعيد ، بل نجد المؤرخين كلهم مطبقين على أن الإمام أبا الحسن بعد هجره للاعتزال والمعتزلة رجع إلى مذهب السلف الصالح ، وصنف على طريقتهم كتبه اللاحقة الإبانة وغيرها من الكتب التي صنفها في نصرة مذهب أهل الحق .

قال الإمام أبو بكر بن فورك رحمه الله تعالى ( تبيين كذب المفتري ص127 ) :

( انتقل الشيخ أبو الحسن على بن إسماعيل الأشعري رحمه الله  من مذاهب المعتزلة إلى نصرة مذاهب أهل السنة والجماعة بالحجج العقلية ، وصنف في ذلك الكتب . . ) اهـ.

وقال عنه ابن خلكان ( وفيات الأعيان 3/284 ) :

( هو صاحب الأصول والقائم بنصرة مذهب السنة . . . وكان أبو الحسن أولا ً معتزليا ً ثم تاب من القول بالعدل وخلق القرآن في المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة " اهـ .

وفي سير أعلام النبلاء (15/89 ) قال عنه الذهبي :

( وبلغنا أن أبا الحسن تاب وصعد منبر البصرة ، وقال : إني كنت أقول بخلق القرآن . . . و إني تائب معتقد الرد على المعتزلة ) اهـ .

وعند العلامة ابن خلدون رحمه الله ( المقدمة ص853 ) :

( إلى أن ظهر الشيخ أبو الحسن الأشعري وناظر بعض مشيختهم - أي المعتزلة - في مسائل الصلاح والأصلح ، فرفض طريقتهم وكان على رأي عبدالله بن سعيد بن كلاب وأبي العباس القلانسي والحارث المحاسبي من أتباع السلف وعلى طريقة السنة ) اهـ .

فهو إذا ً بعد رجوعه عن الاعتزال كان على رأي عبدالله بن كلاب والقلانسي والمحاسبي وهؤلاء كلهم على طريقة السلف والسنة

وهكذا كل كتب التاريخ التي ترجمت للإمام أبي الحسن ، مثل تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ، وطبقات الشافعية للسبكي وشذرات الذهب لابن العماد والكامل لابن الأثير وتبيين كذل المفتري لابن عساكر وترتيب المدارك للقاضي عياض وطبقات الشافعية لابن قاضي شبهة وطبقات الشافعية للإسنوي والديباج المذهب لابن فرحون ومرآة الجنان لليافعي وغيرها ، كلها مطبقة على أن الإمام أبا الحسن بعد توبته من الاعتزال رجع إلى مذهب السلف والسنة .

أضف إلى ذلك ، أن رجوع الإمام المزعوم هذا لو ثبت عنه لكان أولى الناس بمعرفته ونقله هم أصحابه وتلامذته ، لأن أولى الناس بمعرفة الرجل هم خاصته وأصحابه وأتباعه الملازمون له ، فهؤلاء هم أقرب الناس إليه وأعرفهم بأحواله وأقواله وآرائه ، لاسيما في قضية مهمة مثل هذه القضية التي تتوفر الدواعي على نقلها ، وتتحفز الأسماع على تلقفها ، خاصة من إمام كبير مثل الإمام أبي الحسن ، وعند الرجوع إلى أقوال أصحابه وأصحاب أصحابه أيضا ً لانجد أي إشارة تفيد ذلك ، بل نجدهم متفقين على أن الإمام كان بعد هجره للاعتزال على منهج السلف والسنة الذي كان عليه المحاسبي وابن كلاب والقلانسي والكرابيسي وغيرهم ، فهذه مؤلفات ناصر مذهب الأشعري القاضي أبي بكر الباقلاني رحمه الله تعالى كالإنصاف والتمهيد وغيرها ، ومؤلفات ابن فورك ومؤلفات أبي بكر القفال الشاشي وأبي إسحق الشيرازي وأبي بكر البيهقي وغيرهم من أصحاب الإمام وأصحاب أصحابه وتلاميذهم ليس فيها أي ذكر أو إشارة لهذا الأمر الذي هو من الأهمية بمكان .

فهل يعقل أن يرجع الإمام عن مذهبه ويهجره ثم لايكون لهذه الحادثة المهمة أي ذكر عند أحد من أصحابه وتلاميذه وهو من هو جلاله وقدرا ً ؟! أن تراه قد رجع عن ذلك سرا ً وهو الذي حين قرر هجر مذهب المعتزلة اعتلى منبر المعتزلة نفسه ليعلن ذلك على الملأ ؟!

كلا ، ليس الأمر كما جاء في هذه الدعوى ، بل الحق الذي لامرية فيه هو أن الإمام لم يمر في حياته إلا بمرحلتين ، الاعتزال ثم الرجوع إلى طريق السلف ، وليس لمن يقول بخلاف هذا الأمر من دليل ولا شبعة دليل .

ومن يقول بهذه الدعوى يعتمد في قوله هذا على أسلوب الإمام في تأليف كتاب الإبانة وبعض الرسائل الأخرى ، فقد اتبع الإمام فيها طريق التفويض الذي هو طريق جمهور السلف ، فبنوا على هذا الأسلوب مخالفة الإمام الأشعري آراء ابن كلاب الذي يتهمونه بأنه لم يكن على طريق السلف .

ترى هل مافي الإبانة التي هي على طريق جمهور السلف ، وهي من أواخر كتب الإمام أو هي آخرها،مايناقض ماكان عليه عبدالله بن سعيد بن كلاب ؟ أو بتعبير آخر ، هل كان ابن كلاب على خلاف طريق السلف الذي ألف الإمام الأشعري الإبانة عليه ؟

الرد على من رأى أن الأشعري قد مر بمراحل ثلاث :

 كتاب الإبانة هو دليل ومعتمد من يقول بمرور الإمام الأشعري بثلاث مراحل في حياته ، والذي لاريب فيه أن الإمام قد سلك في هذا الكتاب وفي غيره من الرسائل التي نسبت له أسلوبا ً مختلفا ً في التأليف ، فهو في الغالب قد سلك مسلك جمهور السلف في المتشابهات ، نعني بذلك أنه قد أخذ بطريق التفويض ، ففهم البعض من ذلك أن الإمام قد رجع عن طريق ابن كلاب الذي كان عليه طريق السلف !

ونحن قد أثبتنا أن ابن كلاب لم يكن مخالفاً للسلف بل هو منهم وعلى طريقهم وسالك لمسلك التفويض كما مر من قول الحافظ ابن حجر في الرد على ابن النديم حين وصف ابن كلاب بأنه من الحشوية ، قال : " يريد من يكون على طريق السلف في ترك التأويل . . . ويقال لهم المفوضة " ا . هـ " لسان الميزان 3/291 " ، وهذا كاف في الرد لمن تأمل وأنصف .

لكننا نزيد على ذلك ونقول :

إن كتاب الإبانة الذي هو معتمد أصحاب هذه الدعوى ، وهو الدليل عندهم على رجوع الإمام عن طريق ابن كلاب ، نقول : إن هذا الكتاب بذاته ينقض دعوى رجوع الإمام عن هذا الطريق ، لأنه مؤلف على طريقة ابن كلاب وعلى منهجه ، فكيف يرجع عن طريق ابن كلاب ثم يؤلف آخر كتبه على طريقته ؟!

قال الحافظ ابن حجر في " لسان الميزان 3/291 " " وعلى طريقته - يعني ابن كلاب - مشى الأشعري في كتاب الإبانة " اهـ .

وهذا يزيدنا يقينا ً على يقين بأن الإمام ابن كلاب كان على طريق السلف الصالح ومن أئمتهم ، لأن الإبانة التي ألفها الإمام الأشعري في آخر حياته على منهج السلف هي مؤلفة على طريقة الإمام ابن كلاب ، وهذا يقتضي قطعا ً أن طريق السلف وطريق ابن كلاب هما في حقيقة الأمر طريق واحد وهو ماكان عليه الإمام الأشعري بعد رجوعه عن الاعتزال .

أي أن الإمام لم يمر بثلاث مراحل في حياته ، بل هما مرحلتان فقط ، مرحلة الاعتزال ثم أعقبها مرحلة العودة إلى طريق السلف التي كان عليها ابن كلاب والمحاسبي والقلانسي والكرابيسي والبخاري ومسلم وأبو ثور والطبري وغيرهم ، وهي المرحلة التي ألف الإمام فيها كتاب الإبانة .

ويروى أن الإمام الشعري عندما ألف الإبانة رفضها بعض حنابلة بغداد تعصبا ً ولم يقبلوها منه " انظر سير أعلام النبلاء 15/90 ، طبقات الحنابلة 2/18 ، الوافي بالوفيات 12/146 " ولعل هذا يؤيد ما مر من أن الإبانة مؤلفة على طريقة ابن كلاب الذي هجره بعض الحنابلة فيمن هجروه من الأئمة لأجل مسألة اللفظ وأخذهم بعلم الكلام للرد على المخالفين من المعتزلة وغيرهم .

وهذا الذي ذكرناه عن كتاب الإبانة ، إنما أردنا به الإبانة التي صنفها الإمام ، وليست الإبانة المتداولة والمطبوعة اليوم ، وذلك لما حدث على هذا الكتاب من التحريف والنقص والزيادة .

قال العلامة الكوثري رحمه الله تعالى في مقدمة كتاب " تبيين كذب المفتري " :

( والنسخة المطبوعة في الهند من الإبانة نسخة مصحفة محرفة تلاعبت بها الأيدي الأثيمة ، فيجب إعادة طبعها من أصل موثوق " اهـ .

وقال أيضا ً " مقدمته على كتاب إشارات المرام من عبارات الإمام للعلامة البياضي " :

( ومن العزيز جدا ً الظفر بأصل صحيح من مؤلفاته على كثرتها البالغة ، وطبع كتاب الإبانة لم يكن من أصل وثيق ، وفي المقالات المنشورة باسمع وقفه ) اهـ . ( وانظر أيضا ً تعليقه على السيف الصقيل ص155 - 196 ) . وهذا أيضا ً ماذهب إليه الدكنور عبدالرحمن بدوي مؤيدا ً للعلامة الكوثري " مذاهب الإسلاميين 1/516 " قال : ( وقد لاحظ الشيخ الكوثري بحق أن النسخة المطبوعة في الهند تلاعبت بها الأيدي الأثيمة . . ) اهـ.

كما لاحظ ذلك غيرهم من الدارسين ( انظر مذاهب الإسلاميين 1/517 ومابعدها ) .

وللشيخ وهبي غاوجي حفظه الله رسالة في هذا الموضوع بعنوان " نظرة علمية في نسبة كتاب الإبانة جميعه إلى الإمام أبي الحسن " أتى فيها بأدلة موضوعية تدل على أن قسما ً كبيرا ً مما في الإبانة المتداولة اليوم بين الناس لايصح نسبته للإمام الأشعري .

وقد طبع كتاب الإبانة طبعة قوبلت على أربع نسخ خطية بتحقيق الدكتورة فوقية حسين ، وهي طبعة وإن كانت أحسن حالا ً من المطبوعة قبل إلا انها لم تخل من التحريف والنقص والزيادة أيضا ً ، وهذه لعله يصحح ماذهب إليه العلامة الكوثري رحمه الله تعالى حين قال : ( ومن العزيز جدا ً الظفر بأصل صحيح من مؤلفاته على كثرتها البالغة " .

وقد نقل الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى في كتاب " تبين كذب المفتري" فصلين من الإبانة ، وعند مقارنة الإبانة المطبوعة المتداولة مع طبعة الدكتورة فوقية مع الفصلين المنقولين عند ابن عساكر يتبين بوضوح قدر ذلك التحريف الذي جرى على هذا الكتاب .

وهذه بعض الأمثلة على ذلك :

* جاء في الإبانة المطبوعة ص16 مانصه ( وأنكروا أن يكون له عينان مع قوله : ( تجري بأعيننا . . . ) " ا.هـ هكذا بالتثنية !

* وعند ابن عساكر ص157 ( وأنكروا أن يكون له عين ... ) بإفراد لفظ العين .

* وجاء في المطبوعة ص18 ( وأن له عينين بلا كف . . )

* وفي طبعة الدكتورة فوقية ص22 ( وأن له سبحانه عينين بلا كيف ) هكذا ، كلاهما بالتثنية !

* وعند ابن عساكر ص158 ( وأن له عينا ً بلاكيف . . ) بإفراد لفظ العين .  والإفراد هو الموافق للكتاب والسنة وأقوال السلف ، وهذا نص واضح في التلاعب بنسخ الكتاب ، ولفظ العينين لم يرد في القرآن ولا في السنة ، ومن ثنى فقد قاس الله تعالى على المحسوس المشاهد من الخلق ، تعالى الله وتقدس عن ذلك .

قال العلامة الكوثري رحمه الله تعالى في تعليقه على كتاب الأسماء والصفات للبيهقي في هامش ص313 : ( لم ترد صيغة التثنية في الكتاب ولا في السنة ، ومايروى عن أبي الحسن الأشعري من ذلك فمدسوس في كتبه بالنظر غلى نقل الكافة عنه ) ثم قال : ( قال ابن حزم : لايجوز لأحد أن يصف الله عزوجل بأن له عينين لأن النص لم يأت بذلك ) اهـ .

وقال ابن عقيل معلقا ً على حديث الدجال ( دفع شبه التشبيه ص263):

( يحسب بعض الجهلة أنه - صلى الله عليه وسلم - لما نفى العور عن الله عزوجل أثبت من دليل الخطاب أنه ذو عينين ، وهذا بعيد من الفهم ، إنما نفى العور من حيث نفي النقائص . . ) اهـ .

وقال ابن الجوزي في الرد على من أثبت لله تعالى عينين ( دفع شبه التشبيه ص 114 ) :

( قلت : وهذا ابتداع لادليل لهم عليه ، وإنما أثبتوا عينين من دليل الخطاب في قوله عليه الصلاة والسلام : " وإن لله ليس بأعور " وإنما أراد نفي النقص عنه تعالى ) اهـ .

ومن أمثلة التحريف فيه أيضا ً القدح بالإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه :

فقد جاء في الإبانة المطبوعة ص 57 " وذكروا هارون بن إسحاق الهمداني عن أبي نعيم عن سليمان بن عيسى القاري عن سفيان الثوري ، قال : قال لي حماد بن أبي سليمان : بلغ أبا حنيفة المشرك أني منه بريء . قال سليمان : ثم قال سفيان : لأنه كان يقول القرآن مخلوق

وذكر سفيان بن وكيع قال عمر بن حماد بن أبي حنيفة قال أخرني أبي قال : الكلام الذي استتاب فيه ابن أبي ليلى أبا حنيفة هو قوله : القرآن مخلوق . قال : فتاب منه وطاف به في الخلق . قال أبي : فقلت له كيف صرت إلى هذا ؟ قال : خفت أن يقوم علي ، فأعطيته التقية . ( هكذا !!) وذكر هارون بن إسحاق قال سمعت إسماعيل بن أبي الحكم يذكر عن عمر بن عبيد الطنافسي ان حاداً - يعني ابن أبي سليمان - بعث إلى أبي حنيفة : إني برئ مما تقول ، إلا أن تتوب . وكان عنده ابن أبي عقبة ، قال ، فقال : أخبروني جارك أن أبا حنيفة دعاه إلى ما استتيب منه بعد مااستتيب . مانصه : ( وهذا كذب محض على أبي حنيفة رضي الله عنه ) اهـ .

قال العلامة الكوثري رحمه الله تعالى في تعليقه على كتاب الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة  ، في هامش ص49 ، مانصه " ومن غريب التحريف مادس في بعض نسخ الإبانة للأشعري كما دس فيها أشياء أخر من أن حماد بن أبي سليمان قال " بلغ أبا حنيفة المشرك أني برئ من دينه " وكان يقول بخلق القرآن . فإن لفظ حماد " بلغ أبا فلان " لا أبا حنيفة ! كما في أول خلق الأفعال للبخاري ، وجعل من لا يخاف الله لفظ " أبا حنيفة " في موضع " ابا فلان " والله أعلم من هو أبو فلان هذا ، وما هي المسألة . . " اهـ .

وفي كتاب الاعتقاد للبيهقي ( ص112 ) :

( روينا عن محمد بن سعيد بن سابق أنه قال : سألت أبا يوسف فقلت : أكان أبو حنيفة يقول القرآن مخلوق ؟ فقال : معاذ الله ، ولا أنا أقوله . فقلت : أكان يرى رأي جهم ؟ فقال : معاذ الله ، ولا أنا أقوله . ( رواه ثقات )اهـ.

وهذه الرواية تنقض مامر مما نسب لأبي يوسف : ناظرت أبا حنيفة شهرين حتى رجع عن خلق القرآن .

وقال الشيخ وهبي غاوجي حفظه الله " نظرة علمية في نسبة كتاب الإبانة جميعه . . . ص20 ) :

( ولابأس أن نقول : لو كان الإمام الأشعري رحمه الله تعالى نسب حقا ً إلى الإمام - يعني أبا حنيفة - القول بخلق القرآن لما كان للإمام الأشعري تلك المكانة العالية عند الحنفية أتباع الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى . فلا تلتفت أيها القارئ غلى تلك النقول مبتدأ والباطلة سندا ً ، واحسن الظن بالإمام الأشعري كما تحسن الظن بإمام الآئمة الفقهاء وسائر الأئمة رضوان الله تعالى عليهم . وتذكر أنه أدخل الكثير من الأباطيل على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ركبت لها أسانيد باطلة ، لكمات باطلة . كذلك ولاتنس أنه حشر في كتب كثير من العلماء كلمات وعبارات وحذف منها كلمات وعبارات حتى في حياة أصحابها ) اهـ.

ومن هذه الأمثلة أيضا ً ماجاء في الطبعة المتداولة عند ذكر الاستواء ص69 ( إن قال قائل : ماتقولون في الاستواء ؟ قيل له نقول : إن الله عزوجل مستو على عرشه كما قال : ( الرحمن على العرش استوى ) . . ) وفي طبعة الدكتورة فوقيه ص105 " . . . ( نقول إن الله عزوجل استوى على عرشه استواء يليق به من غير حلول ولا استقرار . . )

فالعبارة الأخيرة محذوفة من الطبعة المتداولة ! !

وفي ص73 من الإباة المتداولة ( فكل ذلك يدل على أنه تعالى في السماء مستو على عرشه ، والسماء بإجماع الناس ليست الأرض ، فدل على أن الله تعالى منفرد بوحدانيته مستو على عرشه ) اهـ .

وفي طبعة الدكتورة فوقية ص113 ( فدل على أنه تعالى منفرد بوحدانيته مستو على عرشه استواء منزها ً عن الحلول والاتحاد ) اهـ .

إلى غير ذلك من عشرات الأمثلة الدالة دلالة قاطعة على تحريف الكتاب ، والقاضية بعدم جواز اعتبار معظمه ممثلا ً لعقيدة الإمام الأشعري إلى في ما وافق قول الكافة من أهل العلم والنقل عنه .

فإذا ثبت - كما مر معنا - تاريخيا ً أن الإمام بعد رجوعه عن الاعتزال كان على منهج السلف وأهل السنة ، وإذا ثبت أيضا ً أن الإمام ابن كلاب كان من أئمة السلف وعلى نهج السنة ، وإذا ثبت أيضا ً أن كتاب الإبانة الذي بنيت عليه هذه الدعوى من أساسها هو في حقيقة الأمر مؤلف على طريقة ابن كلاب التي هي ذاتها طريقة السلف ، إذا ثبت ذلك ثبت بناء عليه أن الإمام لم يمر بثلاث مراحل في حياته ، وإنما هما مرحلتان مرحلة الاعتزال في بداية حياته ثم مرحلة عودته ورجوعه إلى طريق السلف . ولانعلم لمن يقول بهذه الدعوى دليلا ً على ماذهب إليه إلا الاعتماد على أسلوب الابانة وبعض الرسائل الأخرى والطريقة التي كتبت عليها ، لأن الإمام قد سلك في الإبانة طريق التفويض ، وهي طريقة جمهور السلف ، وهي في حقيقتها كل مافي الإبانة - نعني الإبانة الصحيحة التي كتبها الإمام وليست الإبانة المحرفة - ويعدون عليه خناصرهم ، إذ كل من التفويض والتأويل حق لااعتراض عليه ، وكلا الطريقين مأثور عن الصحابة والسلف كما سيأتي بيانه ، وكلا الطريقين متفقان على التنزيه بعد إثبات ماأثبته الله تعالى لنفسه ، وكلاهما متفقان على استبعاد الظاهر ومايعهده الخلق من عالمهم .

قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى ( التبيين ص388 ) :

( بل هم - يعني الأشاعرة - يعتقدون مافيها - أي الإبانة - أسد اعتقاد ، ويعتمدون عليها أشد اعتماد ، فإنهم يحمد الله ليسوا معتزلة ولا نفاة لصفات الله معطلة ، لكنهم يثبتون له سبحانه ما أثبته لنفسه من الصفات ، وصفونه بما اتصف به في محكم الآيات ، وبما وصفته به نبيه صلى الله عليه وسلم في صحيح الروايات ، وينزهونه عن سمات النقص والآفات " اهـ. وهذا الذي قال الحافظ ابن عساكر منطبق على كتاب الإبانة الذي ألفه الإمام ، أما ما يوجد اليوم في أيدي الناس منها فلا ثقة به ولايصح أن يمثل - في الغالب - اعتقاد الإمام أو الأشاعرة كما أثبتنا ذلك ، إلا فيما وافق قول الكافة .

وقال أيضا ً رحمه الله تعالى ( تبين كذب المفتري ص389 ) :

( ولم يزل كتاب الإبانة مستصوباً عند أهل الديانة ، وسمعت الشيخ أبا بكر أحمد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن بشار البوشنجي المعروف بالخرجردي الفقيه الزاهد يحكي عن بعض شيوخه أن الإمام أبا عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن احمد الصابوني النيسابوري /اكان يخرج إلى مجلس درسه إلا وبيده كتاب الإبانة لأبي الحسن الأشعري ، ويظهر الإعجاب به ، ويقول : ماذا الذي ينكر على من هذا الكتاب شرح مذهبه . فهذا قول الإمام أبي عثمان وهو من أعيان أهل الأثر بخراسان " اهـ .

فانظر إلى قدر كتاب الإبانة وصاحبه عند أعلام الأمة ، فهذا شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني رحمه الله تعالى وهو من هو جلالة وعلما ً وزهدا ً يثني هذا الثناء العاطر على الإمام أبي الحسن وكتابه الإبانة ، ومنه تعلم أن شيخ الإسلام أبا عثمان الصابوني أيضا ً كان على طريق الإمام الأشعري ، كيف لا وقد تولى تربيته وتهذيبه الإمام أبو الطيب سهل بن أبي سهل الصعلوكي ، وهو - أبو الطيب - من طبقة أصحاب أصحاب الإمام الأشعري ، أي من الطبقة الثانية ، وكان يحضر مجالس أبي عثمان أئمة الوقت كالأستاذ أبي إسحاق الاسفراييني والاستاذ الإمام أبي بكر بن فورك وسائر الأئمة ، وهؤلاء من أعلام أمة الإسلام من السادة الأشاعرة ، وثناؤه عليهم يدل على أنهم على طريق واحد رحمهم الله تعالى ورضي عنهم . ( انظر ترجمة شيخ الإسلام الصابوني في تاريخ مدينة دمشق 9/3 ، سير أعلام النبلاء 18/40، الطبقات الكبرى للتاج السبكي 4/271 " .

بعد كل ما مر ، ويعد كل هذه الأدلة ، هل يصح وفقا ً للمنهج المؤسس للبحث أن تعمل جميع هذه البراهين التاريخية والعقلية والعلمية ، ثم يؤخذ بكلام استنباطي لايرقى إلى مستوى الظن ، وليس له مايؤيده من النقل والعقل ؟!

ولو بالغنا واعتبرنا مااعتمدت عليه هذه الدعوى دليلا ً لما أمكن الأخذ به علميا ً لأن الدليل متى ماتطرق إليه الاحتمال كساه ثوب الاجمال وسقط به الاستدلال ، كما هو مقرر في علم الأصول ، هذا إذا تطرق إلى الدليل الاحتمال مجرد تطرق ، فكيف يكون الحال إذا قارب هذا الاحتمال حد اليقين كما مر من أدلة تحريف الإبانة ؟!

بيد أننا سنبالغ في الافتراض ونقول : هب - جدلا ً - أن كتاب الإبانة المتداول غير محرف ، وأنه ثابت النسبة إلى الإمام الأشعري ، وأنه قد رجع فعلا ً عن ماكان يعنقده من التنزيه . فهل يلزم الأمة أن تتابعه في هذا الأمر ؟!  إن من يعتقد ذلك يسئ الظن بعقول أكثر من عشرة قرون من العلماء والأئمة ، وينسبهم إلى التقليد الأعمى في العقائد ، ويغيب عنه أن الأمة نسبت إلى الإمام الأشعري من حيث كونه وقف حاملا ً لواء السنة على طريق السلف في وجه أصحاب البدع والأهواء ، لا لأنهم قلدوه في ماذهب إليه ، فمتى مارجع عن اعتقاده رجعوا !

قال الإمام تاج الدين السبكي رحمه الله تعالى ( الطبقات الكبرى 6/145) : ( إن كان هؤلاء " يعني أئمة الأشاعرة " أغمارا ً والأشعري يخلبهم ، فليس بعد الأنبياء والصحابة فظن . فيالله والمسلمين " اهـ .

فهم في الحقيقة منتسبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح ، وما الإمام الأشعري رحمه الله وغيره من أئمة أأهل السنة إلا أدلاء على الطريق ، ومن يروج لمثل هذه الدعاوى يريد أن يقول بلسان الحال إن لم يكن بلسان المقال إن هذا الذي رجع عنه الإمام لو كان حقا ً ما رجع عنه ! فالحق عنده يعرف بمن قال به وتبناه وليس لما اعتضد به من أدلة وبراهين ! وهل أتي من أتي إلا من قبل هذا الأمر الذي هو تعظيم الكبراء إلى الحد الذي أعمى أعينهم عن الأخطاء ، فاتبعوهم مقلدين لهم في أخطائهم معتدين أنها هي الحق الذي لا يأتيه الباطل ولايتطرق إليه .

ولله در الإمام ابن الجوزي ماأصدق عبارته فقد أصاب المحز وطبق المفصل حيث قال ( صيد الخاطر ص187 ) :

( قد قال أحمد بن حنبل رحمه الله عليه : من ضيق علم الرجل أن يقلده في دينه الرجال . فلا ينبغي أن تسمع من معظم في النفوس شيئا ً في الأصول فتقلده فيه ، ولو سمعت عن أحدهم مالا يوافق الأصول الصحيحة ، فقل : هذا من الراوي ، لأنه قد ثبت عن ذلك الإمام أنه لا يقول بشيء من أريه . فلو قدرنا صحته عنه فإنه لا يقلد في الأصول ، ولا أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما . فهذا أصل يجب البناء عليه ، فلا يهولنك ذكر معظم في النفوس ) اهـ .

لقد أطنبنا في مناقشة هذه القضية ، وما كنا لنفعل ذلك لولا أن تمسك بها البعض واعتبرها أمرا ً مسلما ً ثم ذهب يبني عليها ويؤسس، فاقتضى المر التفصيل ، وإلا فإن القضية أهون من ذلك بكثير ، إذ كان يكفينا مؤنة النقاش القول المأثور ( البينة على من ادعى ) ولابينة ثم ولا قرينة .

ومهما عظم قدر القائل بهذه الدعوى فإنه لن يغير من شأن الحقيقة شيئا ً ، لأن أي دعوى إنما هي تبع للبراهين والأدلة التي إما تثبتها فتكون حقيقة أو تنفيها فتكون خطأ ووهما ً يجب الرجوع عنه ، وكل يؤخذ منه ويرد عليه إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم ، والحق أحق وأثمن مايطلبه المسلم .

وإذ علمت هذا - وفقنا الله تعالى وإياك - فدع عنك من قال إذ الحق لايعرف بالرجال ، ولكن اعرف الحق تعرف أهله ، وعليك بما قيل إن كان حقا ً ، وإلا فالرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل .