مقال في الدعاء والقضاء ..
تاريخ الإضافة : 2013-01-02 02:38:28
مقال في الدعاء والقضاء ..

مقال في الدعاء والقضاء ..

 

بسـم اللـه الرحمـن الرحميــم

ما أبعاد العلاقة بين القضاء والدعاء؟

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى..

موضوع السؤال قوله - عليه الصلاة والسلام: " لا يردّ القضاءَ إلا الدعاءُ، ولايزيد في العمر إلا البرُ ".

وهو : كيف يرفع الإشكال في موضوع ردّ الدعاء للقضاء؟

وكيف يزيد العمرُ بالبر ، وهو مقدّر محتوم؟

  تحرير الإشكال:

    مما يثبت بالنصوص أن القضاء لا يُردّ، ولا يتبدل، لأنه يرجع إلى صفات العلم والإرادة والقدرة، وأن الأعمال محدّدة أزلا، والشؤون كلها منكشفة من الأزل لله علام الغيوب، ويأتي الحديث المسؤول عنه يدل الحديث على أن ثمة مايردّ القضاء، وهو هنا _تحديدا ً_ الدعاء، وأن هناك مايزيد في العمر، وقد نص الحديث على أنه " البرّ " فهل من تعارض بين القضاء الذي لايرد، والعمر المحدد أزلاً، وبين مادل عليه الحديث، وهو أن الدعاء يردّ القضاءَ، وأن البرّ تكفل بزيادة العمر؟.

وللوصول إلى الجواب الصائب  في هذا التعارض البادي لأول نظرة، لابد لنا من خطوات نسلكها لنصل بعدها إلى النتيجة المتوخاة التي تكشف لنا حقيقة هذا التعارض البادي على سطح النصوص، ومن هذه الخطوات أننا نسوق مجموعة من الحقائق والمعاني والبدهيات الإيمانية التي جاءت بها النصوص قاطعة بها، ونضم لها الكشف عن أبعاد قضية القضاء والقدربآفاقها الرائعة، وعن صلة الدعاء بها بكل بأبعاده، ونحدد معنى زيادة العمر التي جلبها البركما في الحديث، ثم نعرج على النصوص التي كثرت في بيان العلاقة بين الدعاء من حيث إنه مما شرع، ومسأله الإيمان " بالقضاء والقدر" من حيث كونه من أركان الإيمان، وفي رحاب هذه النصوص نجد مايجلي تجلية باهرة رائعة أبعاد هذه العلاقة ، ولعل الكشف عن غورَي القضاء والقدر لايبقي أي إشكال ينبته النظر إلى ظاهر النص بادئ الرأي.

ولانبعد _هنا_ إذا ماذكرنا في أمر التعارض بين النصوص مايسمى "باختلاف المناط " الذي به يزول أمرالتعارض، اللهم إلا إذا كانت العلاقة بين النصين المتعارضين علاقة ناسخ ومنسوخ، وهذه العلاقة لا محل لنا في  مسألتنا هذه، لأنها تتعلق بالعقيدة التي تبنى أساساً على الأخبار، والأخبار في منأى عن قضية " النسخ " التي مجالها الأحكام.

مجموعة من الحقائق والمعاني التي لابد منها قبل التحرك في رحاب النصوص.

 من أركان الإيمان الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره، ودليل هذا الإيمان، إما عقلي إذا رجعنا بهما إلى صفات القدرة والإرادة والعلم، وهذه الصفات أدلتها عقلية نقلية كما هو معلوم، أو: دليله سمعي، جاءت به النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة، وهو الركن السادس الخطير من أركان الإيمان، ومن مظاهر خطورته أنه الركن الذي يساير الحياة، ويغطيها ممارسة، بكل أبعادها، بل ويتغلغل في حناياها الحلوة والمرة، والشديدة والليّنة!.

 ومن أبعاد عقيدة " القضاء والقدر" أنها تنطوي في صفات القدرة والإرادة والعلم، فهي عقيدة جزئية تندرج في صفات القدرة والإرادة والعلم، وهذا الانطواء يعني: أنه مامن شيء في هذا الوجود، بذرّاته ومجرّاته، وبخيره وشره، إلا وقد أحاط الله -تعالى- به علما ً من الأزل، وعلم الله - تعالى- علم ذاتي، انكشفت به كل الشؤون، وقد تناول هذا الكشف، الواجبات والجائزات والمستحيلات، فلا يعزب عن علمه -تعالى- شيء منها، ولا يقبل علمه - سبحانه- التغيير بحال، فكل ماعلم أنه سيكون، لابد أن يكون، وماعلم أنه لايشم رائحة الوجود، لا يمكن بحال أن يشمّها.

كذلك إرادة الله - تعالى-  وهي صفة من صفات الذات، الإيمان بها على أنها مكون من مكونات الإيمان بالقضاء والقدر، وتتعلق الأرادة حصرا ً بالممكنات تعلق تخصيص، ومالا يقبل التخصيص - بداهة-  كالواجب الذاتي، والمستحيل الذاتي، لا تتعلق به إرادته -تعالى- فلا تعلق لها بالواجب الذاتي، ولا بالمستحيل الذاتي، لأن الأول - وهو الواجب-  لايقبل التخصيص، إذ التخصيص يدور في إطار الإيجاد والإعدام، والممكن -وحده- هو الذي يقبل كلاً من الوجود والعدم على حد سواء،  أما الواجب الذاتي فلا يقبل الانتفاء أصلاً، ووجوده ثابت أزلاً بلا مخصص، والمستحيل كذلك لايقبل التخصيص، لأنه لايقبل " الثبوت " بحال، وهو منتفٍ انتفاء ذاتيا دون مخصص، ومعلوم أن الإرادة صفة تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه، ولولا التخصيص لكان من المحال وجوده، لأنه يقبل المتناقضات ابتداء من الوجود والعدم، وانتهاء  بالكم والكيف والزمان والمكان.

ومعلوم أنه لا يتحقق له الوجود بهذه المتناقضات معا ً، فكان لا بد من أن يخصص ببعضها، كذلك الإيمان بصفة القدرة من مكونات الإيمان بالقضاء والقدر، لأن مجال القدرة: الإيجاد والإعدام، والإمداد، وعليه تبرزالقدرة فيما لايزال ما خصصته الإرادة _أزلاً_ كما خصصته، على أن تخصيص الإرادة يطابق ما تعلق به علم الله _تعالى_ وتعلق كل من الإرادة تخصيصا ً والعلم كشفا ً من الأزل، والترتيب بين التعلقين ترتيب عقلي، لازماني.

يفهم مما سبق أن كل ما أبرزته القدرة إلى الوجود الحادث قد أراده الله أزلا، وعلمه، ولايخرج عن هذا من هذا الوجود ذرة، ولا مجرة، زهرة، ولا ثمرة.

ما تعلق به علم الله، وخصصته إرادته أزلاً، هو من الغيوب التي لانعلمها إلا بإحدى وسيلتين: إمّا ظهوره في المكونات، كولادة السيد المسيح على ماكوّن به، أو كنزوله من السماء في المستقبل علامة من علامات الساعة الكبرى على ما دلتنا عليه الأحاديث التي بلغت مبلغ التواتر، أو ما جاءت به الأخبارالتيتكشف عن المستقبليات الحقيقية في عوالم الآخرة، حيث الميزان، والصحف، والحساب، والصراط، والجنة والنار، وما سيكون من نداء أهل النار لأهل الجنة، ولخازن النار مالك _عليه السلام_ واطّلاع بعض أهل الجنة على النار.

إنّ خاتمة كل إنسان من الغيوب التي لانعلمه إلا بدليل، كأن يموت الإنسان _فيما يبدو لنا_ على الكفر، أوعلى الإيمان، وهذه الخاتمة تتطابق مع ماسبق في علم الله أزلاً، وعليه تكون الخاتمة التي ختم بها للإنسان هي عين السابقة التي سبقت في علم الله، فكلاهما بمعنى واحد، لكن السابقة نرجع بها إلى ما علم الله أزلا ً، والخاتمة ننظر إليها فيما يؤول إليه أمر الإنسان عند وداعه هذه الحياة.

ممايستحيل في حق الله " البداء " وهو أن يعلم مالم يكن يعلم، أو يبدو له _سبحانه_ ما لم يكن يعلمه أزلاً، كما هو الشأن في الإنسان، وهذا البداء المستحيل في حقه _تعالى_ هو من عقائد يهود.

كتب في اللوح المحفوظ ماكان، ومايكون، وماسيكون، وما كتب متفق مع ماعلم الله _تعالى_ لا يخرج عنه ذرة!، وكيف يخرج وهو مكتوب بعلمه؟ على أنّ مافي علم الله أوسع مما في اللوح بالبداهة!، إذ لايحيط اللوح بما علم الله تعالى، إذ هو من المخلوقات، وأنى لمخلوق كائناّ ما كان أن يتطابق علمه مع علم الله، هذا، ولايطلع على مافي اللوح إلا من أذن له بذلك.

مايظهر في الوجود الحادث من المخلوقات كله مكتوب في اللوح، وعليه، فلايخرج شيء مما خلق عن قضية " القضاء والقدر"، وماكتب منه في اللوح.

أقام الله هذا الوجود على سنة الأسباب والمسببات، وقد درى الناس كثيرا ً من العلاقات بين الأسباب والمسببات، وقد دعينا إلى أن نأخذ بالأسباب التي وضعها الله _تعالى_ والموصلة إلى مانرغب فيه، ونودّ أن نصل إليه، فالجوع _مثلا_ يبعث على طلب الأسباب التي تزيله، والعطش، والمرض العارض، وكسب الرزق كذلك، وبهذا التصور يتحرك الناس في عالم الأسباب، يأخذون بها، ليصلوابها إلى النتائج المعلومة لديهم، وهذا كما أراد الله لا يتوقف على الإيمان وجودا، وعدما، وربما تمكن الكافر من فهم سبب مما أقام الله، وأخذ به، فوصل إلى مبتغاه، وعجز المؤمن عن ذلك، إذ الأسباب من عطاء الربوبية، وقد قال الله _تعالى_ في هذا الشأن: " ومن كفر فأمتعه قليلا " على أن هناك أسبابا معنوية وضعها الله _تعالى_ دلتناعليها الشريعة، من مثل التداوي في ميدان المرض بالصدقة، ومن مثل الاتقاء من بعض الأمراض بالأخذ بالأسباب الصحية، وبالابتعاد عن مجموعة من المخالفات الشرعية التي تفضي إلى أمراض معينة كما في مسألة " الزنى "، إذ جعلت المخالفات سبيلا ً إليها كما جعلت مجموعة من الممارسات السلوكية مفضية إليها، كالفواحش، وشيوعها في المجتمع، فهناك آثار مترتبة عليه من مثل الأمراض التي لم يسبق لها أن وجدت فيمن سبقنا، إلا إذا قارف من قبلنا هذه الفواحش، وثمة أحاديث نصت على سلوكيات يترتب عليها نقص في نزول الغيث، أوتسليط للعدو، أو وقوع الشحناء والبغضاء بين أفراد المجتمع.

الدعاء من جمله ماشرع الله لنا، وسأعرض لكل مايمكن من حيث دوره في درء المخاطر، وإزاحة النوازل، وتخفيض شدة الشدائد، وعلاقة ذلك بما قضى الله وقدّر.

إن البحث عن اختلاف المناط في أي نصين متعارضين يوقف على حقيقة التعارض، أهو تعارض ظاهريٌ أو حقيقي، ويسلك سبيل المعالجة بعد هذا التحديد، ومثاله الواضح قوله _تعالى_ خطابا للرسول _عليه الصلاة

والسلام_: ( إنك لاتهدي من أحببت ) و خطابه له كذلك بقوله: ( وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ).

فالنص الأول ترى فيه نفي أن تكون الهداية من اختصاص الرسول، بينما النص الثاني " يثبت " له الهداية، أفتكون " الهداية " المنفية، هي عين "الهداية " المثبتة؟ وبالبداهة القائمة على أنه لا تناقض في آيات القرآن الكريم نرى أن المنفي " بالنص الأول غير" المثبت " بالنص الثاني، إذ إن المثبت هو الهداية العامة التي هي " البيان والدلالة والإرشاد " فهو _عليه الصلاة والسلام_ الهادي إلى صراط الله الحميد، والدال عليه، والصراط هو المنهج الذي اختاره الله للبشرجمعاء، وأما المنفي عنه بالنص فهو الهدى الخاص الذي هو التفضل بالتوفيق، وخلق " الهداية " في القلوب، وليس ذلك إلا لله وحده.

 

هذه النقطة توظف كما سنرى توظيفا ً في مسألة العلاقة بين القضاء الذي لا يردّ، والدعاء المستجاب الذي به يردّ القضاء، وبين العمر المحدد في علم الله أزلا ً، وعليه فلايقبل التغييربحال، والزيادة التي دل عليها الحديث موضوع السؤال.

وهنا أجد ضرورة بعد إيراد التعريف بكل من القضاء والدعاء أن أحدّد معنى (ال ) في كل من هاتين الكلمتين " القضاء والدعاء " بعد تعريفهما.

كذلك لا بد من  الإجابة عن سؤال هام هو: أكلّ الأقضية أقضية مبرمة، أم هناك قضاء مبرم، وآخر معلق، وما المقصود بكل من المبرم والمعلق؟ وتحديد الإجابة عن سؤال: ما الموقف إذا كان الدعاء موافقا ً للقضاء أو مخالفا ً له.

كذلك بيان هل القضاء يكون تعليقه على الدعاء وحده، أو أن هناك أقضية كثيرة يعلق على شروط وقوعها على شروط وأسباب؟

وما الأمثلة التي توضح لنا قضية تعليق الأقضية على أسبابها؟

وهل مسألة القضاء المعلق أوالمبرم تخرج عن حقيقة إحاطة الله بكل الممكنات علما ً، وماميدان إحاطة علم الله كما دلت عليها النصوص الشرعية، والحقائق الكونية؟

ولنا بعد نقطة التعريف أن نقف على ما الدعاء الذي يرد القضاء؟ وأي قضاء هذا الذي يرد بالدعاء؟

 

تحديد لابد منه لمعنى كل من القضاء والدعاء .

 

 أولا: القضاء..

 القضاء _لغة_ الحكم ويأتي في اللغة على وجوه مرجعها كلها إلى انقضاء الشيء وتمامه، ويطلق على الخلق والصنع، كقوله _تعالى_: (فقضاهن سبع سموات في يومين) أي خلقهن، كما يطلق على الإتمام، كقوله _تعالى_: (فلما قضينا عليه الموت) أي: اتممناه.   

والقضاء المقترن بالقدر _اصطلاحاً_ عبارة عن الحكم الكلي الإلهي في أعيان الموجودات على ما هي عليه من الأحوال الجارية في الأزل إلى الأبد "

وعليه، فخروج الممكنات من العدم إلى الوجود واحداً بعد واحدٍ مطابقا ً للقضاء. والقضاء في الأزل، والقدر فيما لا يزال، والفرق بين القضاء والقدر هو: أن القضاء وجود جميع الموجودات في اللوح المحفوظ مجتمعة، والقدر وجودها متفرقة في الأعيان بعد حصول شرائطها، وقربوا هذا بمثال فقالوا فيه: القدر بمنزلة تقدير الخيّاط للثوب، فهو قبل أن يفصله يقدّره، فيزيد منه وينقص، فإذا فعله فقد قضاه وفرغ منه، وقد قال الإمام أحمد _رحمه الله_: القدر قدرة الله تعالى.

وقد استحسن أن يقال هذا الكلام من الإمام غاية الاستحسان، وقال ابن قيم الجوزية في كتابه طريق الهجرتين: القضاء والقدر يطلقان على علم الله وقدرته.

وذكر ابن الأثير: " أن القضاء والقدر أمران متلازمان لاينفصل أحدهما عن الآخر، لأن أحدهما بمنزلة الأساس، وهو القدر، والآخر بمنزلة البناء، وهو القضاء، فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه ".

 وذكر أنهما إذا اجتمعا في الذكر افترقا في المعنى _فأصبح لكل معنىً يخصّه_ وإذا افترقا في الذكر دخل أحدهما في معنى الآخر.

وفي الطحاوية: أنه _على التحقيق_ ليس القضاء والقدر بمعنى واحدٍ، وإنّما القضاء هو وقوع المقدر، فإذا وقع القدر السابق، وانتهى سمي " قضاء " أي قضي وانتهى، وهو المقدّر، فالقدر أعم وسابق، والقضاء أخص ولاحق.

والإيمان بهما يشمل الإيمان بالعلم والإرادة والقدرة والكتابة للأشياء في اللوح المحفوظ.

قال _تعالى_ في حق السيدة مريم لما بلغها جبريل ماأراد الله بها من خلق المسيح عليه السلام " وكان أمرا ً مقضيا ً " أي: مقدّرا ً في الأزل، مسطورا ً في اللوح المحفوظ، لابد من وقوعه، فهو واقع لا محالة

 وجاء في " أيسر التفاسير " مقضيا ً: حكم الله به، وفرغ  منه، فهو كائن حتما ً لا محالة.

وجاء أنه مقضيّ في الأزل، قد تعلق به قضاء الله وقدره، وسطر في اللوح، فلا بد من جريانه عليك، أو" كان أمرا ً مقضيا ً" بأن يقضى ويفعل لتضمنه حِكما ً بالغة وأسراراً عجيبة.

قال العلماء: ومجيء " كان " في النص يدل على تحقق ثبوت معنى خبرها لاسمها من الماضي، مثل قوله _تعالى_ " وكان حقا ً علينا نصر المؤمنين " أي: ثبت لهم استحقاق أحقية نصرهم علينا من القِدم.

مقضيا ً: معناه كان مفعولا، أي: أنه ثبت في علم الله أنه يُفعل فاشتق له صيغة مفعول من " فُعِل " للدلالة على أنه حين قدّرت مفعوليته فقد صار كأنه " فُعل " فوصف لذلك باسم " المفعول " الذي شأنه أن يطلق على من اتصف بتسلط الفعل عليه في الحال، لا في الاستقبال، فحاصل المعنى يُنجّزه الله، ويوقع حدثا ً عظيما ً

متصفا ً منذ القدم بأنه محقق الوقوع عند إتيانه أي: حقيقاً بأن يفعل حتى كأنه قد فعل، لأنه لايمنعه مما يخص به مانع من الموانع المعتادة.

وقد جاء في الحديث القدسي: " إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يردّ " يعني إذا قدّر قدرا ً فلا بد من نفاذه.

 وجاء في " التحرير والتنوير" أن قول جبريل لها هذا ليقطع المراجعة منها، وإنباء بأن التخليق قد حصل في "رحمها ".

وكان وجود عيسى _عليه السلام_ على هذه الحالة قضاء سابقاً مقدرا ً مسطورا ً في اللوح المحفوظ وذكر البيضاوي أن قوله: " أمرا ً مقضيا ً " معناه تعلق به قضاء الله في الأزل، أو قدر وسطر في اللوح، أو كان أمرا ً حقيقا ً أن يقضى ويفعل لكونه آية ورحمة، فمقضي:أي لا محيص عنه.

وأكد ابن كثير هذه المعاني، فقال: إن الله تعالى قضى هذا، فليس منه بدٌ، ونقل هذا المعنى عن محمد بن إسحق... وذكر البغوي بعبارته أنه " مخلوق مفروغ منه، لايردّ، ولايبدّل " وقال في نظم الدرر " محكوما ً به مبتوتا ً ".

ويظهر من متابعة هذه الأقوال التي تتوافق في المعنى، ولو اختلفت العبارات أن تقدير الله الأشياء على وجهين: أحدهما بإعطاء القدرة، والثاني بأن يجعلها على مقدار مخصوص، ووجه مخصوص، حسبما اقتضته الحكمة، وما أوجده بالفعل بأن أبدعه كاملا دفعة لايعتريه التغير والفساد إلى أن يشاء أن يفنيه، أو يبدله، كالسموات، وما جعل أصوله موجودة بالفعل، وأجراه بالقوة، وقدره على وجه لايتأتى منه تغير ماقدر فيه، كتقدير منّي الآدمي أن يكون منه إنسان، لا نخلة، ولا نملة.

هذا، حدوث المخلوقات مرتبط بمراتب القدر، وتطلق عبارة " مراتب القدر " على المراحل التي يمر بها المخلوق من كونه معلوما ً إلى أن يصبح واقعا ً مخلوقا ً مشهوداً.

 فلابد لكل مخلوق من أن يكون، قد تعلق علم الله الأزلي به.

وقد قال العلماء: تنتظم أمور الخلق قبل الإيجاد والإمداد علم التقدير وحساب المقادير، ثم مرتبة الكتابة، وهي كتابة المعلومات وتدوينها بالقلم، ومرتبة خلق الأشياء وتكوينها وتصنيفها وفق ماقدر لها بمشيئة الله في اللوح المحفوظ.      

هذا، وقد جاء في الحديث الشريف " أن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء.

كما ورد في حديث ابن مسعود _رضي الله عنه_ أن الملك الذي يرسل إلى الجنين بعد مايبلغ مئة وعشرين يوما ً يؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد.

فالقضاء _كما حدده العلماء_ عبارة عن ثبوت صور جميع الأشياء الداخلة في الأقضية في العلم الأعلى على الوجه الكلي، والقدر وهو الكلمة المصاحبة لكلمة القضاء حيث نقول: " القضاء والقدر " هو حصول صور جميع الموجودات في اللوح المحفوظ .. وكأنه لون تقريب من عالم الغيب المطلق الشامل إلى عالم الإبراز في ساحة الوجود الحادث.

ويوانس هذا وإن اختلف عنه ماهية نزول القرآن الكريم من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في بيت العزة وذلك بعدها من  ليصوغ المجتمع الإسلامي وعباداته وحكمته وأخلاقه  بعد أن كتب فيه، فخرج بهذه الكتابة من الغيب المطلق، إلى الغيب المقيد وهو اللوح المحفوظ ونزوله إلى بيت الغزة تأهيل لينزل.

فالقضاء _إذن_: هو الحكم الكلي الإجمالي على أعيان الموجودات بأحوالها من الأزل إلى الأبد، من مثل الحكم الذي قرره قوله _تعالى_: (كل نفس ذائقة الموت).

والقدر: هو تفعيل هذا الحكم بتعيين الأسباب، وتخصيص إيجاد الإيمان بأوقات وأزمان بحسب قابلياتها واستعداداتها المقتضية للوقوع منها، وتعليق كل حال من أحوالها بزمان معين، وسبب مخصوص، مثل: الحكم بموت زيد _مثلاً_ في اليوم الفلاني بالمرض الفلاني في المكان الفلاني.

وهنا تظهر العلاقة بين بعض الأقدار ومايتصل بها إيجادا ًوإخراجا من الوجود، من مثل: ظهور المنكرات من بعض المكلفين، فظهورها على أيدي أهل المنكرات لايخرج عن مسألة الأقدار، وقد دعتنا الشريعة إلى إنكارها، وإنكارها حيث يقع كذلك من الأقدار، وقوله _عليه الصلاة والسلام_ من رأى منكم منكرا ً " يدل على قدر ظهور هذا المنكر الذي علمه الله أزلا ً وخصصته إرادته، ثم يقول: " فليغيره بيده " وهو دعوة إلى إحداث تغيير في ميدان المنكر، والإنكار حيث يقع يدل على قدر الإنكار، وبه يدفع قدر " الظهور " على يد من أظهره من المكلفين اكتسابا ً، بقدر " الإنكار " ممن ينكر كسباً، وهذا التغيير عمل مشروع، وهو كذلك من الأقدار، فيزال قدر " المنكر " بقدر " التغيير " وليس أدل على هذا المعنى من قوله _تعالى_: (إن الله لا يغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) فإحداث التغيير كما في الآية يتحقق بقيام المجتمع بما كلف به شرعا ً.

هناك  من المحققين من قال: إن القدر عبارة عن تعلق القدرة بإيجاد جميع الأشياء التعلق التنجيزي الواقع فيما يزال، والقضاء عبارة عن تعلقها التعلق المعنوي الحاصل في الأزل، ويراد بالمعنوي: التعلق الصلوحي أي: هي صالحة من الأزل لتوجد، وعلى هذا يكون القضاء بهذا الاعتبار سابقا ًعلى القدر، وهنا لابد من أن نذكر بأنه لا عذر لأحد في القضاء والقدر، والتخليق والإرادة، لأن هذه المعاني لم تجعل المكلف مضطرا ً إلى مايفعل، لأنه فعل مافعل مختارا ً، وقد قررت الشريعة من جملة ماقررت أن المضطر_الذي يخرج عن دائرة الاختيار_ تراعي الشريعة مايصدر عنه حال اضطراره من تصرفات، وبدهي أن من أكره على ترك الإيمان، وهو قمة التكليف، معذور بما يكره عليه من الكفر، شريطة أن يكون قلبه مطمئن بالإيمان، قال _تعالى_: ( إلا من ذكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) وبالبداهة له عذر في حال إكراهه على ما هو دون الكفر.

وتوضيح لهذا نقول: إنه لا يجوز أن يتخذ من خلق المكان والزمان ظرفين للأفعال عذرا ً لمن يريد أن يعصي الله فيهما.

وقد يطلق القضاء على " المقضيّ نفسه " وهو الوارد في قوله _عليه الصلاة والسلام_ عائذا بالله: " اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء، ودَرَكِ الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء " وعلى هذا المعنى لايجوز الرضا به، ولذلك استعاذ منه، إلا أن يكون مقضيا من محاب الله التي يتقرب بها إليه، كإغاثة الملهوف، وأما القضاء بمعنى حكم الله وتصرفه أي ما يرجع إلى ما أحاط به علمه _تعالى_ وخصصه بإرادته، وأظهره بقدرته فهذا يجب الرضا به. 

وعليه، إذا كان المقضيّ مما دعتنا إليه الشريعة " كالإيمان " فالرضا به قضاء ومقضيا ً على حد سواء.

وعلى هذا المعنى ورد في الأثر أن الله _تعالى_ يقول: من لم يرض بقضائي، ولم يشكر نعمائي، ولم يصبر على بلائي، فليتخذ إلهاً سوائي.

وماكان القدرعلى هذا المعنى مرضياً إلا أنه من " فعل الله ".

وهنا نحدد ماذهب إليه الأشاعرة في معنى " القضاء " حيث قالوا: قضاء الله " إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ماهي عليه فيما لايزال "، وقدره _تعالى_: إيجاده الأشياء على قدر مخصوص، وتقدير معين في ذواتها وأحوالها.

القدَر: هو مايقدره الله _تعالى_ من القضاء: يقال: هدمت البناء فهو هَدَم، أي: مهدوم.

والقدر مصدر يراد به المقدر تارة، والتقديرتارة أخرى.

ويقال: قدّرته: إذا دبرته بفكرك قبل إحداثه، وأحطتَ علما ً بمقاديره وحدوده التي سيكون عليها، ويطلق القدر أيضا ً: على ذلك الحد والمقدار الذي يبلغه الشيء ويُحدّ به ويطلق على ذلك الشيء المقدر الصادر عن فاعل على وفق ماقدّره وحدّده.

وإذا وصف به الله _تعالى_ كان بمعنى " علمه " وإحاطته الأزلية بمقادير الأشياء، وأحوالها التي ستكون عليها من مبدأ ونهاية، وقوة وضعف، وخير وشر، وماتقع فيه من زمان ومكان، ومايسبقها من مقدّمات، مايتبعها من آثار إلى غير ذلك مما يصل بالمخلوق، بحيث يكون إيجادها بعدُ على وفق ذلك العلم، فلا يقع مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض و لا أصغر من ذلك ولا اكبر إلا طبقا ً لما أحاط به علمه، وسبق به كتابه، قال _تعالى_: ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ) وهذه الآية من أصرح الآيات على ماذكرنا.

فالقضاء والقدر يرجعان إلى صفات الذات: القدرة والإرادة والعلم " وبهذا المعنى تأتي عبارات العلماء بثبوت القضاء والقدر، ونأيهما عن التبديل والتغيير.

وعلى هذا جاء النص القرآني بنفاذ ما أراد، ووفقاً لما تعلق به علمه، قال: _تعالى_ ( قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ) وقال _تعالى_ يعلمنا الموقف السليم من الأحداث الواقعة بنا ( قل لن يصيبنا إلا ماكتب الله لنا ) كذلك كشف الله _تعالى_ عما يتحرك في النفس من خواطر تجاه مواقف معينة، فقال: ( علم الله أنكم ستذكرونهم ).

وهذا في سياق الحديث عمن يتوفى عنها زوجها، ولا تزال في عِدّة الوفاة،  ختاما ً وبهذا الصدد يجيء قوله _تعالى_ ( إنا كلّ شيءٍ خلقناه بقدر ) وعليه، فماعلم الله وجوده علمه من حيث إنه سبب أو مسبب، وسيكون وهو المسبب بسببه الذي أحاط الله به علما ًمن الأزل، ولهذا كله نقطع أنه ماكان من سعادة وشقاء، ورزق وحرمان، ونصر وهزيمة، وصحة ومرض، وحياة و موت، لايكون وحده دون أسبابه السابقة، ومسبباته اللاحقة، وماجرت به السنن الكونية، وما سبق به الكتاب، وجفّ به القلم، وطويت عليه الصحيفة، كائن على ما علمه الله أزلا، لا تبديل لكلمات الله، ولا يند عن هذا وقوع المقدر في وقته المحدد مع ماسبقه من أسبابه، لا دون أسبابه.     

 وفي الأساس: الأمور تجري بقدر الله ومقداره وتقديره وأقداره، والقدر والتقدير كلاهما تبيين لكمية الشيء، فتقدير الله _على هذا_ إما بالحكم منه أن يكون كذا، أو لأن يكون كذا، إما على سبيل الوجوب، وإما على سبيل الإمكان، وعلى ذلك قوله _تعالى_ ( قد جعل الله لكل شيءٍ قدرا ً ) وإما بإعطاء القدرة عليه، وقوله _تعالى_ ( وكان أمر الله قدرا ً مقدورا ً ) أي: قضاء مبتوتاً. وقال بعضهم: "قدراً" إشارة إلى ماسبق به القضاء، والكتابة في اللوح، وهو المشار إليه بقوله _صلى الله عليه وسلم_: " فرغ ربك من الخلق والرزق " وأما:" مقدورا ً " فإشارة إلى مايحدث حالا ً فحالا ً " المشار إليه بقوله: _تعالى_ ( كلّ يوم هو في شأن )  أي: هي شؤونٌ يبديها، ولا يبتديها " وهذا لا ينافي قضية رفع الأقلام وجفاف الصحف، كما في قوله _عليه الصلاة والسلام_" رفعت الأقلام وجفت الصحف " لأن الجود الإلهي لما كان مقتضياً لتكميل الموجودات قدّر بلطف حكمته زمانا لذلكً. وقال الفخر الرازي في قوله _تعالى_ " وكان أمر الله قدرا ً مقدورا ً " القضاء مايكون مقصودا ً في الأصل، والقدر مايكون تابعا ً، فالخير كله بقضاء، ومافي العالم من الضرر فبقدر.

علم الله _كما أسلفنا_ الأشياء وأسبابها ونتائجها، وكل مايتعلق بها من أحوال وظروف، وهذا هو عمق معنى " القدر" وهذا مادلت عليه نصوص، ومنها قوله _صلى الله عليه وسلم_ للمزني الذي قال: يارسول الله!، فيم العمل؟ قال:" إن أهل الجنة ييسرون لعمل أهل الجنة ، وإن أهل النار ييسرون لعمل أهل النار".

ولايفهم من أمر وقوع المسبّب الذي علمه الله دون سببه المتقدم عليه، الذي أحاط الله به علما كذلك، إلا كما يفهم ظهور الثمرة، من الغصن الذي حملها وأثمرها، والعلاقة بينهما علاقة سببية.

وقد قرر الشرع _في هذا الإطار_ أن النصر مع الصبر، وأن الرزق مع السعي، وأن الأمن الإجتماعي في إقامة أحكام الشريعة، ومنها الحدود، هذا، والرسول قد تداوى وأمر بالتداوي، وسعى وأمر بالسعي، وكان يدّخر لقوت أهله مايكفيهم عاما ً.

ويجيء في هذا المسار قوله _عليه الصلاة والسلام_: " احرص على ماينفعك، واستعن بالله، ولاتعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت، كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وماشاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان" ، " وكلمة " لو" هذه، حين تقال لتتقى بها النتيجة التي ظهرت فعلا ً، لا أثر لها في التغيير، فهي لا تعدو تمنيا لأمر قد وقع ألا يكون وقع، مع أنه حيث وقع دل على أنه مما علم الله، وما علم وقوعه لا يتغير بحال، فلوهذه ليست سوى إبداء رغبة، وودّ أمر قد وقع ألا يكون وقع ينقلب إلى حسرة في القلوب حارقة، وعلى هذا جاء قوله _تعالى_ ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم " لهذا جاء النهي عن قول " لو " إلا أن يقولها مراجعة للخطوات التي أفضت به إلى  هذه النتيجة المرّة في حلق نفسه، يراجعها لئلا يقع فيها ثانية، فهذا لا مانع منه، ولا ضير عليه فيه.

على المكلف أن يسعى ويبذل ما أمكنه بذله، فإن لم تأت الثمرة التي توخاها من سعيه، وابتغاها حين سعى، فمعناه أن التقديرالإلهي قد جاء بخلاف ما أراده العبد، وعندها يستحضر قضية القضاء والقدرعلى أنها ركن من أركان الإيمان، فيقول: قدر الله، وماشاء فعل، " حيث لا سبيل إلى دفع الواقع لئلا يقع، بل قد وقع فعلا، والعمل على رفعه إذا كان مما يرفع هو المطلوب، ومن هنا يأتي أمر " الرضا  " بما أصابه، حيث إنه من " القدر" ويترك " الأسى " على ما فات، حيث إنه كذلك من القدر، وهو عين العقل العملي الإيماني الواعي، ولا فائدة من قوله " لوكان لكان " سوى التندم الكاوي، اللهم إلا إذا أراد _كما ذكرت سابقا ً_ أن يبني مايستقبله من أمر على خبرة مامضى من سلوك وواقع، ليستفيد من كل من السلبيات والإيجابيات جميعا.

لدينا تعبير شديد ، فما حقيقته ؟ ورهبـة آسرة ، فما مصدرها ؟ وخاطرة تجلي حقيقة استجابة " الدعاء " برد القضاء .

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن البلاء لينزل ، فيتلقاه الدعاء ، فيعتلجان إلى يوم القيامة " أي : يتصارعان - ويتدافعان.

وقال : " الدعاء والبلاء يتعالجان إلى يوم القيامة ".

وقد سمي الدواء الذي يتناوله المريض ليدفع به عنه المرض " علاجا ً " لدفعه الداء .

وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الدعاء والقضاء ليلتقيان بين السماء والأرض ، فيعتلجان فيغلب الدعاء القضاء " وفي رواية : " فيصطرعان ".

إذا كان لا أحد من الخلق يستطيع أن يرد القضاء ، ويحكم الله - تعالى - كما مر في الحديث : " أن يكون الدعاء سببا لرد القضاء ، فهذا حكم الله وقضاؤه ، وحيث يفهم هذا لايبقى إشكال ، والإشكال يقع إذا لم ينزل كل نص من النصين " الدعاء يرد " و" القضاء لايرد " المتعارضين في الظاهر في منزله ، وإذا غفل عن كون الدعاء من الأسباب التي يدفع بها ما جاء الدعاء لدفعه ، كما يدفع بسائر الأسباب مسبباتها ، أو يستجلب بها مسبباتها ، وهو على هذا قدر من أقدار الله تعالى .

مما يستهول به النص أنه كما يبدو يجعل الإنسان يستطيع رد القضاء بدعائه .