في آفاق صحيح البخاري ، وفي رحاب مرتبة الحديث ( الشاذ )
تاريخ الإضافة : 2014-06-05 11:02:07
هل يوجد في البخاري حديث يقال عنه شاذ أو منكر وما حكم العلماء على إفادة حديث الآحاد التي رواها البخاري في صحيحةثم أليس المنكر والشاذ من أقسام الضعيف وهل يمكن أن نقول عن حديث في البخاري أو مسلم حديث صحصح سندا شاذا متنا ؟

لا أنكر أني استفدت ، وأنا أتابع ما قرره العلماء بشأن " حديث الآحاد " وشعرت برغبة جامحة في المتابعة ، ومتعة عارمة في المعرفة ،  وأنا أنقل عنهم ما قرروه بتصرف طفيف !

- وهذا ما خلصت إليه من أمر حجية حديث الآحاد  على أني أعرضت عمّن سفه هذا التوجه ، ولمست ضعف رأيه من أمور ، منها : أنه سوى بين المتواتر وغير المتواتر في الحجية ، وحين عرّف كلا منهما وجدت فارقا جوهريا بين النوعين !

- وقد نقل بعضهم رأي من أنكر الحديث الصحيح ، حيث حكم عليه " بالكفر" فقلت : ليس هذا ممّا تحمى به السنة ، بل هو شطط في الحكم على الناس بما به يخلدون في النار ، ودون دليل يستند إليه !

** أقسام " السنة" باعتبار سندها :

 تنقسم السنة باعتبار رواتها عن الرسول إلى ثلاثة أقسام : سنة متواترة ، وسنة مشهورة ، وسنة آحاد .

فالسنة المتواترة: هي ما رواها عن رسول الله جمعٌ يمتنع عادة أن يتواطأ أفرادُه على كذب ، لكثرتهم ، وأمانتهم ، واختلاف وجهاتهم ، وبيئاتهم ، ورواها عن هذا الجمع جمعٌ مثله. حتى وصلت إلينا بسند كل طبقة من رواته جمعٌ ، لا يتفقون على كذب من مبدأ التلقي عن الرسول إلى نهاية الوصول إلينا!

 - ومن هذا القسم السنن العملية في أداء الصلاة وفي الصوم والحج والأذان وغير ذلك من شعائر الدين التي تلقاها المسلمون عن الرسول بالمشاهدة ،أو السماع ، جموعاً عن جموع ، من غير اختلاف في عصرعن عصر ، أو قطر عن قطر ، وقل أن يوجد في السنن القولية حديث متواتر .

- والسنة المشهورة: هي ما رواها عن رسول الله صحابي ، أو اثنان ، أوجمع لم يبلغ حدّ جمع التواتر، ثم رواها عن هذا الراوي، أوالرواة جمعٌ من جموع التواتر، ورواها عن هذا الجمع جمعٌ مثله ، وعن هذا الجمع جمعٌ مثله ، حتى وصلت إلينا بسند ، أول طبقة فيه سمعوا من الرسول قوله ، أو شاهدوا فعله ، فرد ، أو فردان ، أوأفراد لم يصلوا إلى جمع التواتر، وسائر طبقاته جموعُ التواتر، ومن هذا القسم بعض الأحاديث التي رواها عن الرسول عمر بن الخطاب ، أو عبدالله بن مسعود، أو ابو بكر الصديق ، ثم رواها عن أحد هؤلاء جمع لا يتفق أفراده على كذب ، مثل حديث " إنما الأعمال بالنيات"  وحديث " بني الإسلام على خمس" وحديث " لا ضرر ولا ضرار".

فالفرق بين السنة المتواترة ، والسنة المشهورة :"أن السنة المتواترة كل حلقة في سلسلة سندها جمعُ التواتر، من مبدأ التلقي عن الرسول إلى وصولها الينا !

- وأما السنة المشهورة فالحلقة الأولى  في سندها ، ليست جمعا من جموع التواتر بل الذي تلقاها عن الرسول واحد، أو اثنان ، أو جمع ، لم يبلغ جمع التواتر. وسائر الحلقات جموع التواتر .

** وسنة الآحاد: هي ما رواها عن الرسول آحادٌ لم تبلغ جموعَ التواتر، بأن رواها عن الرسول واحدٌ ، أو اثنان ، أو جمع لم يبلغ حد التواتر ، ورواها عن هذا الراوي مثله ، وهكذا ، حتى وصلت إلينا بسند طبقات آحاد لا جموع التواتر . ومن هذا القسم أكثر الأحاديث التي جمعت في كتب السنة وتسمى خبر الواحد.

قطعيها وظنيها: أما من جهة الورود ، فالسنة المتواترة قطعية الورود عن الرسول ، لأن تواتر النقل يفيد الجزم ، والقطع بصحة الخبر كما قدمنا ، والسنة المشهورة قطعية الورود عن الصحابي ، أو الصحابة الذين تلقوها عن الرسول لتواتر النقل عنهم ، ولكنها ليست قطعية الورود عن الرسول ، لأن أول من تلقى عنه ليس جمعَ التواتر ،ولهذا جعلها فقهاء الحنفية في حكم السنة المتواترة ، فيخصص بها عام القرآن ، ويقيد بها مطلقه ، لأنها مقطوع ورودها عن الصحابي . والصحابي حجة وثقة في نقله عن الرسول ، فمن أجل هذا كانت مرتبتها في مذهبهم بين المتواتر وخبر الواحد.

- وسنة الآحاد ظنية الورود عن الرسول ، لأن سندها لا يفيد القطع.

وأما من جهة الدلالة فكل سنة من هذه الأقسام الثلاثة قد يكون قطعية الدلالة ، إذا كان نصها لا يحتمل تأويلاً . وقد تكون ظنية الدلالة إذا كان نصها يحتمل التأويل .

- ومن المقارنة بين نصوص القرآن ونصوص السنة من جهة القطعية والظنية ، ينتج أن نصوص القرآن الكريم كلها قطعية الورود ، ومنها: ما هو قطعي الدلالة ، ومنها: ما هو ظني الدلالة ، واما السنة فمنها: ما هو قطعي الورود ، ومنها: ما هو ظني الورود ، وكل واحد منهما قد يكون قطعي الدلالة ، وقد يكون ظني الدلالة .

- وكل سنة من أقسام السنن الثلاثة المتواترة والمشهورة وسنن الآحاد ، حجة واجب اتباعها ، والعمل بها!

- أما المتواترة فلأنها مقطوع بصدورها وورودها عن رسول الله ،-- وأما المشهورة ، أو سنة الآحاد ، فإنها- وإن كانت ظنية الورود عن رسول الله- إلا أن هذا الظن ترجّح بما توافر في الرواة من العدالة ، وتمام الضبط  ، والاتقان ، ورجحان الظن كان في وجوب العمل، لهذا يقضي القاضي بشهادة الشاهد، وهي إنما تفيد رجحان الظن بالمشهود به. وتصح الصلاة بالتحري في استقبال الكعبة ، وهو إنما يفيد غلبة الظن ، وكثير من الأحكام مبنية على الظن . ولو التزم القطع واليقين في كل أمر عملي لنال الناسَ الحرجُ !.

**أقسام السنة من روايتها:

- عنيَ المسلمون منذ العصر الأول بنقل أقوال النبي- صلى الله عليه وسلم- وأفعاله ، وتقريراته ، نقلاً ، وعُنوا بفحص الرواة ، وفحص ما ينقلون عن النبي- صلى الله عليه وسلم- وقد نقلت الأحاديث عمّن عاينوا النبي ، وحضروا مشاهده ، ثم عن تابعيهم ، ثم عمّن جاءوا بعدهم ، وتنقسم ابتداء بحسب روايتها إلى قسمين : " متصلة السند ، وغير متصلة السند "!

 -  وقد تكلم علماء الأصول في قوة الاستدلال في غير المتصل السند.

والمتصل السند ينقسم إلى ثلاثة أقسام من حيث عدد رواته، متواتر، ومشهور ،وخبر آحاد.

القسم الأول: المتواتر، وهو الذي يرويه قوم لا يحصى عددهم ويؤمن تواطؤهم على الكذب ، عن مثلهم ، حتى يصل السند إلى النبي- صلى الله عليه وسلم - وقد ضربوا مثلا: الصوات الخمس، ومقادير الزكوات ، وبعض أحكام القصاص ، وقد ادعى بعض العلماء التواتر باللفظ في قول النبي- صلى الله عليه وسلم -: "من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" وقد اتفقوا على التواتر في الحديث النبوي الذي رواه عمر- رضي الله عنه- : "إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى " .

وقد قال جمهور العلماء إن الحديث المتواتر يوجب العلم اليقيني الضروري ، كالعلم الناشيء من العيان، وقد احتجوا لذلك بأن الناس قد تواضعوا على ذلك بمقتضى فطرهم ، فإن الناس يعرفون آباءهم بالأخبار المتواترة ، كما يعرفون أبناءهم بالعيان، ويعرفون بالتواتر نشأتهم صغاراً ، ثم صيرورتهم كباراً ، كما يرون ذلك عياناً في أولادهم ، ويعرفون جهة الكعبة بالخبر المتواتر ، كما يعرفون جهات منازلهم بالعيان. وقد أثبت التحقيق المنطقي صحة ما تواضع الناس على صدقه من القدم ، وذلك لأن الناس خلقوا على مشارب متباينة، وطبائع مختلفة لا يتفقون . فإن اتفقوا في خبر ، فإما عن سماع ، أو: اختراع ، واتفاقهم على الاختراع باطل ، فلم يبق إلا أن الاتفاق كان مبنياً على السماع . والأحاديث المتواترة الاحتجاج بها في قوة الاحتجاج بالقرآن.

القسم الثاني: الأحاديث المشهورة ، وهي الأحاديث التي يرويها عن النبي واحد  ،أو اثنان ، أو نحو ذلك من الصحابة ، أو يرويها عن الصحابي واحد أو اثنان ،ثم تنتشر بعد ذلك فيرويها قوم يؤمن تواطؤهم على الكذب ، فاشتهاره يكون في الطبقة التي تلي عصر الصحابة ، أو عصر التابعين ، ولا يعد الحديث مشهوراً إذا كان انتشاره واستفاضته بعد تلك الطبقة ، لأن الأحاديث كلها بعد التدوين قد اشتهرت .

والحديث المشهور يفيد عن أبي حنيفة وأصحابه العلم اليقيني ، ولكن دون العلم بالتواتر ، وهو قد يزاد به على القرآن عندهم ، ولقد اعتبره بعض الفقهاء حجة ظنية كالآحاد .

القسم الثالث: خبر الآحاد ، ويسميه الشافعي- رضي الله عنه- خبر الخاصة ،وهو كل خبر يرويه الواحد أو الاثنان ، أو الأكثر عن الرسول- صلى الله عليه وسلم- ولا يتوافر فيه شرط المشهور .

وحديث الآحاد يفيد العلم الظني الراجح ،ولا يفيد العلم القطعي ،إذ الاتصال بالنبي فيه شبهة ،ويقول صاحب كشف الأسرار فيه: "الاتصال فيه شبهة صورة ومعنى ،أما ثبوت الشبهة فيه صورة ، فلأن الاتصال بالرسول لم يثبت قطعاً ،وأما معنى ، فلأن الأمة تلقته بالقبول ، أي في الطبقة التي تلى التابعين ".

ولهذا الشبهة في إسناد الحديث بالرسول - صلى الله عليه وسلم- قالوا: إنه يجب العمل به ، إن لم يعارضه معارض ، ولكن لا يؤخذ به في الاعتقاد ،لأن الأمور الاعتقادية تبنى على الجزم واليقين ، ولا تبنى على الظن ، ولو كان راجحاً ،لأن الظن في الاعتقاد لا يغني عن الحق شيئاً .

- ولهذا الشبهة في إسناد الحديث بالرسول – صلى الله عليه وسلم – قالوا: إنه يجب العمل به ، إن لم يعارضه معارض ، ولكن لا يؤخذ به في الاعتقاد ، لأن الأمور الاعتقادية تبنى على الجزم واليقين ،ولا تبنى على الظن ،ولو كان راجحاً ،لأن الظن في الاعتقاد لا يغني عن الحق شيئاً .

- ولقد كان الأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد يأخذون بأخبار الآحاد إذا استوفت شروط الرواية الصحيحة ، بيد أن أبا حنيفة اشترط مع الثقة بالراوي ، وعدالته ألا يخالف عمله ما يرويه ، ومن ذلك ما روي من أن أبا هريرة كان يروي خبر: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً ، إحداهن بالتراب الطاهر" فإن أبا حنيفة لم يأخذ به ، لأن راويه ، وهو أبو هريرة كان لا يعمل به ، إذ كان يكتفي بالغسل ثلاثاً ، فكان هذا مضعفاً للراوية ، ونسبتها حتى إلى أبي هريرة .

- ومالك- رضي الله عنه- اشترط في الأخذ بخبر الآحاد ألا يخالف ما عليه أهل المدينة ،لأنه يرى أن ما عليه أهل المدينة في الأمور الدينية هو رواية اشتهرت ، واستفاضت ، فهو كشيخه ربيعة الرأي يرى أن عمل أهل المدينة في أمر ديني هو رواية ألف ،عن ألف ،عن ألف ، حتى يصل إلى النبي ، فإذا خالفها خبر آحاد كان ضعيف النسبة للرسول ، فتقدم عليه ، فهي تقديم مشهور مستفيض متواتر على خبر آحاد في نظر مالك ، وليس رداً مجرداً لخبر الآحاد .

- وبذلك ننتهي إلى أن الأئمة الأربعة يأخذون بخبر الآحاد ،ولا يردونه ، ومن يرده في بعض الأحوال فلسبب رآه يضعف نسبته إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم- لمعارضته لما هو أقوى منه سنداً في نظره .

- ويشترط لقبول خبر الآحاد العدالة والضبط ، وأن يكون الراوي قد سمع الحديث عمن يرويه عنه ، بأن يكون اللقاء بينهما ثابتاً ، وألا يكون في متن الحديث شذوذا ، بألا يكون مخالفاً للمقرر الثابت عند أهل الحديث ،أو ما علم من الدين بالضرورة ،أو مخالفا للقطعي من القرآن .

- وإن العدالة معناها ألا يكون معروفا بالكذب ، وأن يكون مؤديا للفرائض ، منتهيا عن النواهي في الدين ، فلا يقبل في الرواية في الدين من لا يتحرج من مخالفة أوامر الدين ، ونواهيه ، ومن العدالة ألا يكون صاحب بدعة في الدين يدعو إليها.

- وأما الضبط فقد فسره فخر الإسلام البزدوي بقوله: أما الضبط فإن تفسيره هو سماع الكلام كما يحق سماعه ، ثم فهمه بمعناه الذي أريد به ، ثم حفظه ببذل المجهود له ، ثم الثبات عليه بمحافظة حدوده ، ومراقبته بمذاكرته على إساءة الظن بنفسه إلى حين أدائه - وهو نوعان: ضبط المتن بصيغته ومعناه، والثاني: أن يضم إلى هذه الجملة ضبط معناه فقها وشرعا ، وهذا أكملها ، والمطلق من الضبط يتناول الكامل ، ولهذا لم يكن خبر من اشتدت غفلته خلقة ، أو مسامحة ، ومجازفة ، حجة لعدم القسم الأول من الضبط ، ولهذا قصرت رواية من لم يعرف بالفقه في باب الترجيح .

- ويلاحظ أنه قسّم الضبط إلى ناقص ، وكامل ، فالناقص: هو الحفظ المستمر، وفهم المعنى اللغوي ، والكامل: هو فهم المعنى الفقهي ! – والأول: شرط لقبول الرواية ، فترد إذا لم يتحقق ذلك النوع من الضبط ،وأما الثاني فهو شرط الترجيح ، فإذا تعارضت رواية الفقيه مع غير الفقيه ردت رواية غير الفقيه ، وأخذ برواية الفقيه .

- قال الشيخ شلتوت : "وقد أجمع العلماء على أن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة ولا يصح عليها في شأن المغيبات "!.

- فأحاديث الآحاد ظنيَّةُ الثبوت، وأمَّا القرآن ومتواتر السنَّة فقطعيَّ الثبوت!

- وما ورد عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينقسم إلى متواتر وآحاد، فلا يأخذ العلماء إلا بالمتواتر في بناء العقيدة، إذ إن أحاديث  الآحاد تفيد العلم، ولا تفيد اليقين، ولهذا لا يستدل بها في العقيدة!

- وهناك من ذهب إلى إفادته العلم بشروط ، كأنها تدفع عنه معنى " الظنية" فقد ذكر في شرح الكوكب أن أكثر الأصحاب قالوا: إنه يفيد العلم إذا احتف بالقرائن التي تسكن إليها النفس؛ وأن المسلسل بالأئمة الحفاظ يفيد العلم، وهو المذهب، وظاهر كلام الأصحاب، وجزم به ابن أبي موسى في الإرشاد.

قال القاضي في مقدمة المجرد: خبر الواحد يوجب العلم إذا صح سنده، ولم تختلف فيه الرواية، وتلقته الأمة بالقبول!

وقال الشيخ تقي الدين: أكثر أهل الأصول وعامة الفقهاء من الحنابلة والشافعية والحنفية والمالكية قالوا: يفيد العلم، ويقطع بصحته إذا تلقته الأمة بالقبول، أو عملت به، إلا فرقة من هؤلاء ،  - هذا ، وقد ذكر أن بعض المحدثين قال: إن فيه ما يوجب العلم اليقيني، كرواية مالك عن نافع عن ابن عمر.

- وقد نص مالك على إفادته العلم، وقطع به ابن خويز منداد، وحكاه عن مالك، وهو قول عامة الفقهاء من المالكية ذكره عبدالوهاب.

وعليه الشافعية بلا نزاع، فقد صَّرح به الشافعي في الرسالة .

وعليه أيضاً أصحاب أبي حنيفة، وداود وأصحابه، كما نصره ابن حزم في الأحكام، ونص عليه الحسين الكرابيسي !

- وقد صَّرح الحنفية بأن المستفيض يوجب العلم كحديث: (لا وصية لوارث) وحديث أخذ الجزية من المجوس، وحديث ميراث الجدة السدس، ونحوها مما عمل به السلف والخلف، وكلها آحاد !

** من الأدلة على إفادة خبر الواحد العمل

(أ) اعتقد المسلمون وجوب طاعة الرسول- صلى الله عليه وسلم- ولزوم امتثال طلبه، وتقبل كل ما جاء به عن ربه.

(ب) قال - تعالى - (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة ) من سورة النساء ، فالحكمة التي هي سنة النبي- صلى الله عليه وسلم- بمنزلة القرآن، في كونها وحياً منزلاً من الله !

 

في آفاق صحيح البخاري ، وفي رحاب مرتبة الحديث " الشاذ "

  • الجامع الصحيح للبخاري :

مؤلفه : الإمام أبو عبدالله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري الجعفي ولاء .

ولد سنة 194 بخرتنك قرية قرب بخارى ، وتوفي فيها سنة 256.

وبدت عليه علائم الذكاء والبراعة منذ حداثته : حفظ القرآن - وهو صبي - ثم استوفى حفظ حديث شيوخه البخاريين ، ونظر في الرأي، وقرأ كتب ابن المبارك حين استكمل ست عشرة سنة ، فرحل في هذه السن إلى البلدان ، وسمع من العلماء والمحدثين ، وأكب عليه الناس ، وتزاحموا عليه ، ولم تبقل لحيته.

قال شيخه محمد بن بشار الحافظ :"حفاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالري ، ومسلم بن حجاج بنيسابور، وعبدالله بن عبدالرحمن الدارمي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل البخاري ببخارى".

وعنه أيضاً قال :"ما قدم علينا مثل البخاري".

وقال الإمام الترمذي :" لم أر بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ، ومعرفه الأسانيد كبير أحد أعلم من محمد بن إسماعيل".

قال البخاري : كنا عند إسحاق بن راهويه فقال: لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: فوقع ذلك في قلبي ، فأخذت في جمع الجامع الصحيح.

وهذا يدل على عقلية مبتكرة مبدعة ، إذ أخذت هذه الكلمة منه الاهتمام ، وبعثته للعمل على تأليف كتابه ، وسماه كما ذكر ابن الصلاح والنووي: " الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وسننه وأيامه".

قصد البخاري في صحيحه إلى إبراز فقه الحديث الصحيح ، واستنباط الفوائد منه، وجعل الفوائد المستنبطة تراجم للكتاب (أي عناوين له )، ولذلك فإنه قد يذكر متن الحديث بغير إسناد ، وقد يحذف من أول الاسناد واحداً فأكثر، وهذان النوعان يسميان تعليقاً.

وقد يكرر الحديث في مواضع كثيرة من كتابه يشير، في كل منها إلى فائدة تستنبط من الحديث ، وذكر في تراجم الأبواب علماً كثيراً من الآيات والأحاديث ، وفتاوى الصحابة والتابعين، ليبين بها فقه الباب ، والاستدلال له، حتى اشتهر بين العلماء " فقه البخاري في تراجمه ".

( الحديث الشاذ )

الشاذ في اللغة : المنفرد عن الجماعة، شذ يشذ شذوذاً، إذا انفرد.

وفي اصطلاح المحدثين: الشاذ ما رواه المقبول مخالفاً لمن هو أولى منه ، لكثرة عدد، أو زيادة حفظ ، ويقابله  المحفوظ ، وهو ما رواه الثقة مخالفاً لمن هو دونه في القبول.

وينقسم الشاذ بحسب موضعه في الحديث إلى قسمين :

 شاذ في السند ، وشاذ في المتن ،  مثاله :

 ما أخرجه الدار قطني عن عائشة- رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان يقصر في السفر، ويتم ، ويفطر ويصوم".

فهذا حديث رجال إسناده ثقات ، وقد صحح إسناده الدارقطني.

لكنه شاذ سندا ومتناً: أما السند، فلأنه خالف ما اتفق عليه الثقات عن عائشة أنه من فعلها غير مرفوع.

وأما المتن فلأن الثابت عندهم مواظبته- صلى الله عليه وسلم -على قصر الصلاة في السفر، لذلك قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام:" والمحفوظ من فعلها". أي رواية ذلك موقوفا عليها لا مرفوعاً.

والحكم في الشاذ أنه مردود لا يقبل ،لأن راويه ، وإن كان ثقه، لكنه لما خالف من هو أقوى منه ، علمنا أنه لم يضبط هذا الحديث. فيكون مردوداً.

وهذا النوع دقيق جداً، لأنه يشتبه كثيراً بزيادة الثقة في السند، أو المتن ، ويحتاج إلى نظر دقيق للفصل بينهما.

هذا هو المشهور في الشاذ، وهو ما ذهب إليه الإمام الشافعي وغيره.

وخالف الحاكم والخليلي في تعريف الشاذ ،وذهبا فيه مذهباً آخر:

قال الحاكم:” الشاذ من الروايات، وهو غير المعلول، فإن المعلول ما يوقف على علته أنه دخل حديث في حديث ،أو وهم فيه راوٍ، أو أرسله واحد ، فوصله واهم.

فأما الشاذ فإنه حديث يتفرد به ثقه من الثقات ، وليس للحديث أصل متابع لذلك الثقة".

وقال الخليلي في كتابه الإرشاد :" الذي عليه حفاظ الحديث: الشاذ: ما ليس له ألا إسناد واحد يشذ بذلك شيخ ، ثقة كان ، أو غير ثقه ، فما كان عن غير ثقه فمتروك لا يقبل ،وما كان عن ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به" .

وقد انتقد ابن الصلاح هذا الرأي الذي يتوسع في الحديث الشاذ بالأحاديث الغرائب ، والأفراد الصحيحة ، فقد اتفق العلماء على تصحيح عدد كثير من الأحاديث الغريبة والأفراد ،"مما يبين – كما قال ابن الصلاح- أنه ليس الأمر في ذلك على الإطلاق الذي أتى به الخليلي والحاكم.

وبهذا يثبت أن الأليق في تعريف الشاذ ما عرفه به الإمام الشافعي رضي الله عنه.

**مراتب كتب الحديث:

حفظ الله بالنص كتابه المنزل ، وحفظ سنة نبيه المبينة للكتاب المنزل بما دلنا عليه قوله- تعالى - " لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ " إنه - سبحانه- بالنص تكفل بالبيان ، وقد اسند لرسوله مهمة البيان ن قال - تعالى - " وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ " وعليه فهو المبين عن طريق رسوله !

- وقد دل الواقع على صدق هذا حيث قيض الآلاف من علماء الحديث ، وجاءت مؤلفاتهم لتشهد !

لقد صنفت في الحديث كتب كثيرة وصل إلينا بعضها، ولم يصل بعضها الآخر، ولايزال عدد كبير منها مخطوطاً في المكاتب العالمية، وسيعيش لها الجهابذة من العلماء لينفضوا عنها الغبار ويحيوا بها التراث الإسلامي العظيم. وكان ينبغي أن تكون كتب الحديث بهذه الكثرة، لأن مجموعة الأحاديث النبوية يتعذر إحصاؤها وضبطها في كتاب يجمعها مهما يكن هذا الكتاب ضخماً عظيماً، فالإمام أحمد بن حنبل انتخب من آلاف الأحاديث مسنده ، الذي  بلغ قرابة الأربعين ألفاً.

وقد حاول السيوطي في كتابه "جمع الجوامع" أن يستوعب الأحاديث النبوية بأسرها ،وفقاً لما أداه إليه اجتهاده واطلاعه، فجمع منها مئة ألف حديث ، ومات قبل أن يتم تصنيفه. وجدير بالذكر أنه كان يقول: "أكثر ما يوجد على وجه الأرض من الأحاديث النبوية ، القولية والفعلية، مئتا ألف حديث ونيف" .

إن هذا المقدار العظيم من الأحاديث التي جمعت من كتب شتى ألفت في أعصر مختلفة لا يمكن أن ينظر إلى مصادر الحديث- على اختلافها - ذات طبقة واحدة ، ومرتبة واحدة ، ولذلك اصطلح العلماء على تقسيم كتب الحديث بالنسبة إلى الصحة والحسن والضعف إلى طبقات:

الطبقة الأولى: تنحصر في صحيحي البخاري ومسلم وموطأ مالك بن أنس ،وفيها من أقسام الحديث : المتواتر ، والصحيح الآحادي، والحسن.

الطبقة الثانية: وفيها جامع الترمذي ،وسنن أبي داوود ،وسند أحمد بن حنبل ، ومجتبى النسائي ،وهي كتب لم تبلغ مبلغ الصحيحين والموطأ ، ولكن مصنفيها لم يرضوا فيها بالتساهل فيما اشترطوه على أنفسهم ، وتلقاها من بعدهم بالقبول، ومنها استمدت أكثر العلوم والأحكام وإن كانت لا تخلو من الضعيف.

والمحدثون يعتمدون على هاتين الطبقتين بوجه خاص ،ويستنبطون منهما أصول العقيدة والشريعة .

الطبقة الثالثة: وهي الكتب التي يكثر فيها أنواع الضعيف من شاذ ومنكر ومضطرب ، مع استتار حال رجالها وعدم تداول ماشذت به أو انفردت: كمسند ابن أبي شيبة ،ومسند الطيالسي ، ومسند عبد بن حميد، ومصنف عبدالرزاق ،وكتب البيهقي والطبراني والطحاوي ، وهذه الطبقة لايستطيع الاعتماد عليها والاستمداد منها إلا جهابذة المحدثين ،الذين أفنوا حياتهم في استكمال هذا العلم وتتبع جزئياته.

الطبقة الرابعة: مصنفات هزيلة جمعت في العصور المتأخرة من أفواه القصاص والوعاظ والمتصوفة والمؤرخين غير العدول وأصحاب البدع والأهواء كما في تصانيف ابن مردويه وابن شاهين وأبي الشيخ. ومن الواضح أن هذه الطبقة الأخيرة لا يعول عليها أحد من الذين لهم إلمام بالحديث النبوي ، لأنها مصدر الأهواء والبدع.

التعريف بأهم كتب الرواية والمسانيد:

تعددت أنواع كتب الحديث، كما تعددت طبقاتها ، فكان منها كتب الصحاح والجوامع والمسانيد ، المعاجم ،والمستدركات ،والمستخرجات والأجزاء.

أما كتب الصحاح فهي تشمل الكتب الستة للبخاري ، ومسلم وأبي داوود والترمذي والنسائي وابن ماجه، إلا أن العلماء اختلفوا في ابن ماجه ،فجعلوا الكتاب السادس موطأ الإمام مالك ، كما قال رزين وابن الأثير ، أو مسند الدارمي كما قال ابن حجر العسقلاني.

وعلى ذلك فإن من الواضح أن عبارة" الكتب الخمسة" تصدق على كتب الأئمة الذين ذكروا قبل ابن ماجه ،فإذا قرأنا في ذيل بعض الأحاديث مثل هذه العبارة : "رواه الخمسة "فمعنى ذلك أن البخاري ومسلماً وأبا داوود والترمذي والنسائي قد اتفقوا جميعاً على رواية هذا الحديث .

وعبارة "الصحيحين" تطلق على كتابي البخاري ومسلم، ويقال في الحديث الذي روياه :"رواه الشيخان" أو "متفق عليه" .

وإنما سميت الكتب الستة بالصحاح على سبيل التغليب ،وإلا فإن كتب "السنن" الأربعة للترمذي وأبي داوود والنسائي وابن ماجه هي دون الصحيحين منزلة ،وأقل منهما دقة وضبطاً.

ولكل من أصحاب الكتب الستة ميزة يعرف بها، فمن أراد التفقه فعليه بصحيح البخاري ،ومن أراد قلة التعليقات فعليه بصحيح مسلم، ومن رغب في زيادة معلوماته في فن التحديث فعليه بجامع الترمذي ،ومن قصد إلى حصر احاديث الأحكام فبغيته لدى أبي داوود في سننه، ومن كان يعنيه حسن التبويب في الفقه فابن ماجه يلبي رغبته ، أما النسائي فقد توافرت له أكثر هذه المزايا .

وصحيح البخاري أرجح من صحيح مسلم، لأن الإمام البخاري اشترط في إخراجه الحديث شرطين أحدهما معاصرة الراوي لشيخه، والثاني ثبوت سماعه ،بينما اكتفى مسلم بمجرد شرط المعاصرة.

الموقف الصحيح من كتاب " صحيح البخاري "

- من فوائد القول أن ما انفرد به البخاري، أو مسلم ، مندرج في قبيل ما يقطع بصحته ، لتلقي الأمة كلّ واحد من كتابيهما بالقبول .. سوى أحرف يسيرة تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ مثل الحافظ الدار قطني

وقد ذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة كتابه "فتح الباري" أن عدة أحاديث البخاري بالمكرر وبما فيه من التعليقات والمتابعات واختلاف الروايات (9082) ،فيها من المتون الموصولة بلا تكرار(2602) ومن المتون المعلقة المرفوعة (159) ولم يتناول ابن حجر بالعد والاستقصاء مافي البخاري في الموقوف على الصحابة والمقطوع على التابعين. أما عدة مافي صحيح مسلم بلا تكرار فيبلغ نحو أربعة آلاف حديث".

عناوينه الإمام النووي ، فأصبح الانتفاع به أيسر . ولمسلم في صحيحه مزايا منها سهولة تناوله ، لأنه جعل لكل حديث موضعاً واحداً يليق به جمع فيه طرقه التي ارتضاها وأورد فيه أسانيد والمتعددة، بخلاف البخاري فإنه يذكر تلك الوجوه المختلفة في أبواب متفرقة متباعدة. ومسلم يميز "حدثنا" و "أخبرنا" فكان يرى أن "حدثنا" لا يجوز إطلاقه إلا لما سمعه من لفظ الشيخ خاصة ، "وأخبرنا" لما قرئ على الشيخ.

وهذا مذهب أكثر أصحاب الحديث، ولاسيما الشافعي وأصحابه وجمهور أهل العلم بالمشرق. ثم إن مسلماً يعني في صحيحه بضبط الفاظ الرواة ، كقوله " حدثنا فلان وفلان واللفظ لفلان قال أو قالا: حدثنا فلان".

وإذا كان بين الرواة اختلاف في حرف من متن الحديث أو صفة الراوي أو نسبه أو نحو ذلك فإنه حريص على التنبيه عليه ولو لم يتغير به المعنى وهذا إن دل على شيء فعلى ضبطه وأمانته.

وفي كل من الصحيحين نجد الإشارة إلى "حدثنا" بهذه العبارة "ثنا" وإلى "أخبرنا" بهذه العبارة "أنا" وهما اصطلاحان يراد بهما الاختصار . ويكثر في صحيح مسلم خاصة حرف حاء "ح" يرمز إلى التحول من إسناد إلى إسناد، وذلك إذا كان للحديث إسنادان أو أكثر ، فعلى القارئ إذا انتهى إليها أن يقول "ح" ثم يستمر في قراءة ما بعدها .

والبخاري ومسلم لم يلتزما بإخراج جميع ما يحكم بصحته من الأحاديث فلقد فاتهما عدد قليل من الأحاديث اعترفا بصحتها مع أنها لم ترد في كتابيهما ، وإنما وردت في كتب السنن الأربعة ، أو سواها من الكتب المشهود لها بالصحة.

تعريف الشاذ عسير ، ولعسره لم يفرده العلماء بالتصنيف ، غير أن أهم ما يلاحظ فيه معنيان: الانفراد والمخالفة ، فهو – بصورة عامة - ما رواه الثقة مخالفا الثقات، وهو بتعبير أدق – ما رواه المقبول مخالفا لمن هو أولى منه ، وقد صرح الحافظ ابن حجر بأن هذا هو المعتمد في تعريف الشاذ بحسب الاصطلاح .

ويوشك ابن حجر ،بهذا التعريف المعتمد للشاذ ،أن يقرب شقة الخلاف بين اصطلاحين مشهورين يظن الناس تضاربهما .وقد نسب هذان المصطلحان إلى كل من الإمام الشافعي ،والحاكم.

أما الشافعي فيقول: "ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يرويه غيره، هذا ليس بشاذ . إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثاً يخالف فيه الناس : هذا الشاذ من الحديث . والناس ، في قول الشافعي ،هم الثقات ، فكأنه يقول: "الشاذ ما رواه الثقة مخالفاً الثقات" ، وهو إذن لا يلاحظ مطلق التفرد، بل التفرد والمخالفة في آن واحد ،إلا أنه لم يصرح بأن المخالفة للأولى ، أو الأوثق ،وإنما هي مخالفة عامة للناس "الثقات" .