تفسير قوله عز وجل (ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يؤذين)...
تاريخ الإضافة : 2011-12-24 00:00:00
نرجوا أن تعطونا إضاءة حول معنى قوله عز وجل (ذلك أدنى أن يُعرفنّ فلا يؤذينّ ) ‏[‏الأحزاب‏:‏ 59‏]‏‏.

بسم اللــــه الرحمن الرحيــم

الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.....وبعد

 

قوله - تعالى -: ( ذلك أدنى أن يُعرفنّ فلا يؤذينّ) جاء في سياق أمر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر أزواجه - وبناته ونساء المؤمنين - بإدناء الجلابيب عليهن ...

 

إدناء الجلابيب :

الجلباب : الملاءة أو العباءة تكون فوق الدرع السابغ الطويل ، فهو ثوب يستر جميع البدن تلبسه المرأة فوق ثيابها ، وعماد أقوال العلماء في الجلباب مع اختلافها هو أنه الثوب الذي يستر به البدن .

يدنين : يرخين على وجوههم الجلباب حتى ما يبدو من المرأة إلا عين واحدة تنظر بها الطريق إذا خرجت لحاجة ، فالإدناء تغطية الرأس من فوق خمارها ..

 

  • كان النساء في المدينة لا يخرجن لقضاء الحاجة إلا ليلاً ، وقد أمرن بلبس الجلباب في كل خروج ليعرفن ، وهذا من باب سد الذريعة .

 

  • لبس الجلباب من شعائر الحرائر، فالإماء لا يلبسن الجلابيب ، فجعل الستر فرقا به يعرف الحرائر من الإماء .

 

  • الخروج دافعه أنه لم يكن لهن مراحيض في البيوت .

 

 

  • الإيذاء من الفساق كان بصورة التحرش الكلامي والغمز والكلمة السفيهة وهم يقصدون على عادتهم الإماء لا الحرائر .

 

  • كان عمر –رضي الله عنه- مدة خلافته يتابع أمر ألا تتشبه الأمة بالحرة ، ويخفق بالدرة من يراها أمة قد تقنعت ، وهذا من السياسة الشرعية ، ثم زال هذا بعده .

 

  • وقد كان فعل عمر كان من السياسة الشرعية ، وفيه زجر لأنه كان يخشى من التشبه بالحرائر في اللباس والزي أن يعتدن الرقة ويضعفن عن الخدمة والعمل وتكثر مؤنهن على سادتهن ، وأمر تبذل المرأة في لباسها حين الخدمة معروف واضح .

 

عن أم سلمة –رضي الله عنها- لما نزلت هذه الآية :"يدنين ..." خرج نساء من الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من أكسية سود يلبسنها .

 

وقد ذكر المفسرون سبب نزول الآية من سورة "الأحزاب" أن نساء أهل المدينة كن يخرجن بالليل لقضاء حاجتهن خارج البيوت ، وكان بالمدينة بعض الفساق يتعرضون للإماء ، ولا يتعرضون للحرائر ، وكان بعض النساء يخرجن بزي لا يتميز عن زي الإماء، فيتعرض لهن أولئك الفساق بالأذى ظنا منهم أنهن إماء ، فأمر الله نبيه –صلى الله عليه وسلم- أن يأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يتميزن في زيهن عن زي الإماء ، وذلك بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ، فإذا فعلن ذلك ، ورآهن الفساق علموا أنهن حرائر ومعرفتهم بأنهن حرائر ، لا إماء ، وهو معنى "ذلك أدنى أن يعرفن" فهي معرفة بالصفة "التي دل عليها إدناء الجلباب" لا بالشخص .

 

وأنت خبير أن في هذا المسلك تحجيم لشر الأشرار بهذا الأسلوب ، بناء على أن الحرة لها من ينصرها ، ويخشاه من سولت له نفسه شرا تجاهها ...

وبدهي أن الحرائر أكثر بكثير من الإماء .

 

ولك أن تقف على ما يكون ممن يعتدي على موظف حكومي ، فإن الاعتداء أشد ، ولا يعني هذا إباحة الاعتداء على من سواه ممن ليس موظفا ، فلباس الموظف لما يشعر أنه منسوب للحكومة يرهب النفس التي تتطلع إلى إيقاع الأذى به ، ومن المعروف أن الاعتداء على الشرطي أشد من الاعتداء على غيره ، فهذا كما ترى من باب تقليم أظافر الشر، حيث تحجم عن الامتداد إلى ما يقتلعها ، ولد يسوغ لها أن تمتد إلى غيرها أي : إلى الإماء بنص آخرغير هذا النص ...

 

 

 

ثم قضية معالجة الشريعة لأمراض اجتماعية من أدق القضايا التي سلكها التشريع فنجح أروع نجاح ، وما أمر تحريم الخمر بمراحله بالمجهول .

 

وبدهي أيضا أنه ليس المراد منه أن تعرض الفساق للإماء جائز بل هو حرام أيضا ، ذلك أن المتعرضين لهن هم ممن في قلوبهم مرض ، وأنهم يدخلون في عموم من أنذرهم الله تعالى بقوله :"لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ..." إلى "وقتلوا تقتيلا" .

 

أيفهم مما سبق أن الشريعة قد أهملت أمر الإماء ولم تعتن بما ينالهن من الإيذاء من قبل ضعاف الإيمان مع أن في ذلك من الفتنة ما فيه ، فهلا كان التصون والتستر عاما في جميع النساء ، إن الإشكال يطرأ من سياق الآية الأولى ، حيث يعمل فيه بمفهوم المخالفة ، وفيه أنه إن خصصنا الحرائر فكأنا أبحنا الإماء ، وحكمهن المخالفة هنا لا يسري إذ النهي عن الإماء والتعرض لهن ثبت بنصوص كثيرة اخرى ، وهذا راجع إلى توظيف الشريعة وهي بصدد بناء المجتمع النظيف ، الأعراف السائدة ، ولا يخفى ما جاء في الربا من النهي عن أكله أضعافا مضاعفة أنه لا يسري عليه أيضا مفهوم المخالفة ، فلا يقال يجوز الربا القليل!!!!!..

 

وعليه فدفع ضر الفساق عن الإماء لازم ، وله أسباب أخرى ليس منها إدناء الجلابيب ، فصار دفع الأذى عن كل من الحرائر والإماء بنصوص مختلفة.

 

وقضية الإدناء اقتصرت على الحرائر لأن الإماء بطبيعة عملهن يكثرن الخروج والتردد في الأسواق لقضاء حاجات البيوت ، وتكليفهن بلبس الجلباب السابغ كلما خرجن فيه حرج ومشقة ، بخلاف الحرائر فإنهن مأمورات بعدم الخروج إلا لمصلحة ، وقد نهى كتاب الله عن إيذاء المؤمنين والمؤمنات جميعا ، سواء منهن الحرائر والإماء ، وتوعد المؤذين لهن بالعذاب المهين . وهذا من ترتيب أوضاع الشريعة البين .

قال العلماء :"كثرة التردد في الأسواق ومحال البياعات في خدمة سادتهن وقضاء مصالحهم ، فإذا كلفن أن يلبسن الجلباب السابغ كلما خرجن كان فيه حرج ومشقة ، ولقد راعى الشارع الحكيم هذه الحال ، فنهى الناس بعامة عن أن يؤذوا المؤمنين والمؤمنات جميعا ، سواء الحرائر والإماء . وتوعد من يؤذي بعذاب أليم" ولذا قال المفسرون : نزلت الآية بعد أن استقر أمر الشريعة على وجوب ستر العورة ، فيكون الستر –هنا- المكرر به زائدا على ما يجب من ستر العورة ، إذ الجلباب كما بينت هو ثوب سابغ فوق الثياب الساترة ، كالملاءة المعروفة في عصرنا ...وأسوق ختاما ما جاء عن أبي حبان الأندلسي من أنه اختار وجها غير الذي سلكه جمهور المفسرين ، واعتبر الأمر بإدناء الجلباب موجها إلى النساء بعامة الحرائر والإماء ، واعتبر قوله تعالى :"أن يعرفن" أي بالعفة والتصون ، لا بكونها حرة أو أمة ، فلا يتعرض لهن على سواء ، ذلك أنه إذا بالغت المرأة في التستر والتعفف قطعت طمع اهل الفساد ، وقد علق أحد العلماء المعاصرين على ذلك بقوله :"وهو رأي تبدو عليه مخائل الجودة"...

 

أرجو أن أكون قد وضحت شيئا عن السؤال المطروح .