جاء في الحديث ( أذنب عبدي ذنبا فقال: اللهم اغفر لي، فعلم...
تاريخ الإضافة : 2012-05-22 00:00:00
جاء في الحديث ( أذنب عبدي ذنبا فقال: اللهم اغفر لي، فعلم أن له ربا يأخذ بالذنب ) هل المعنى الاستمرار بنفس الذنب أو في كل مرة ذنب يختلف عن سابقه، مع شرح إن أمكن ؟

أولاً الحديث عن علي –رضي الله عنه عن النبي –صلى الله عليه وسلم: "أذنب عبد ذنبا، فقال: رب إني عملت ذنبا، فاغفر لي، فقال الله: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي، ثم أذنب ذنبا آخر... إلى أن قال في الرابعة: فليعمل ما شاء" الحديث في البخاري ومسلم. وروى أحمد والترمذي –وصححه عن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: "إن ربك ليعجب من عبده إذا قال: رب اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري".
و روى الحاكم من حديث عقبة بن عامر "أن رجلا أتى النبي –صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ! أحدنا يذنب ! قال: يكتب عليه، قال: ثم يستغفر منه ! قال: يغفر له ويتاب عليه. قال: فيعود فيذنب، قال: يكتب عليه، قال: ثم يستغفر منه ويتوب، قال: يغفر له ويتاب عليه، لا يمل الله حتى تملوا..."

وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي –رضي الله عنه قال: خياركم كل مفتن تواب. قيل: فإن عاد، قال: يستغفر الله ويتوب، قيل: فإن عاد، قال: يستغفر الله ويتوب، قيل: فإن عاد، قال: يستغفر الله ويتوب، قيل: حتى متى ؟ قال: حتى يكون الشيطان هو المحسور.

وابن حبان قال: تفضل الله على التائب المعاود لذنبه بمغفرة كلما تاب وعاد يغفر له وإن الله يغفر لعبده ما لم يقع الحجاب، قيل: وما يقع الحجاب ؟ قال: أن تموت النفس وهي مشركة.
قوله "فليعمل ما شاء": أي مادام على هذه الحال، كلما أذنب ذنبا استغفر منه. وقد روى الصديق عن النبي: "ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة" رواه الترمذي، وعن ابن مسعود مرفوعا: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" رواه ابن ماجة. فالتوبة تهدم ما قبلها.

ومن عطايا الكتاب والسنة أن عَرّفانا إلى الله –تعالى ذاتا وصفات وأسماء وأفعالا، بل هي أعظم عطاياهما، وقد جاءت أسماء الله تعالى في القرآن والسنة، ودعينا إلى إحصائها، والوقوف على أنوار آثارها. والحديث المسؤول عنه من هذا الضرب، إذ من أسمائه سبحانه الغافر والغفار والغفور، وأسماؤه –تعالى أزلية، واقتضى اسمه الغافر وجود العبد المستغفر، فلما وجد واستغفر غفر له، وظهر نور اسمه الغافر... وإليك مجموعة من النصوص بهذا المسار.

روى سعيد بن جبير عن ابن عمر –مرفوعا "يأتي الله بالمؤمن يوم القيامة... وفيه: يا عبدي ! أنت في ستري من جميع خلقي... إلى أن يقول: اذهب فقد غفرتها لك بحرف واحد من جميع ما أتيتني به، فقال: ما هو يا رب ؟ قال: كنت لا ترجو العفو من غيري" قال العلماء: من أعظم أسباب المغفرة أن العبد إذا أذنب ذنبا لم يرج مغفرته من غير ربه..

وفي الحديث أنه: كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب، فأتاه، فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسا، فهل له من توبة ؟ فقال: لا، فقتله، فكمل به مئة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مئة نفس، فهل له من توبة ؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة، انطلق، إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء.

أهناك باب للتوبة أوسع من باب الله تعالى، على أن يأتيه العبد، ويلزمه، مهما ألمَّ به من الذنوب، شريطة أن يكون صادقا في التوبة والرجوع إلى الله تعالى في كل مرة، ثم إن حديث القاتل يدل على ذنب تكرر، وياله من ذنب، إذ قتل النفس بغير حق، جاء بعد الشرك الذي لا توبة منه إلا بالخروج منه إلى رحاب التوحيد.

وثمة ملحوظات:
يستفاد مما سبق أن العود إلى الذنب، وإن كان أقبح من ابتدائه، لأنه انضاف إلى ملابسة الذنب نقض التوبة، لكن العود إلى التوبة أحسن من ابتدائها، لأنه انضاف إليها ملازمة الطلب من الكريم، والإلحاح في سؤاله، والاعتراف بأنه لا غافر للذنب سواه. وهذا إقرار بالربوبية وإرجاع الأمر إليه –سبحانه في قضيتي الثواب والعقاب كما في "علم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب".

1- اختلف في التوبة النصوح التي تكفر السيئات وتبدلها حسنات، فقيل: هي أن يتوب الشخص ثم لا يعود إلى الذنب، كما لا يعود اللبن إلى الضرع، وقيل: يجمعها أربعة أشياء: الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العود بالجنان، ومهاجرة سيء الخلان.

2- قال قتادة: إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار. قال بعضهم: إنما معول المذنبين البكاء والاستغفار، فمن أهمته ذنوبه أكثر لها من الاستغفار.

3- إذا قرن الاستغفار بذكر التوبة، يكون عبارة عن طلب المغفرة باللسان، وتكون عبارة عن الإقلاع من الذنوب بالقلب والجوارح.

4- في سورة آل عمران قرن الاستغفار المجاب بعدم الإصرار، فيحمل النص المطلق في الاستغفار على المقترن بترك الإصرار.

5- الاستغفار باللسان مع إصرار القلب على الذنب مجرد دعاء أو دعاء مجرد، إن شاء أجابه، وإن شاء رده، وروى ابن أبي الدنيا من حديث ابن عباس –مرفوعا "التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمستغفر من ذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه" هذا، ولم يرتض ابن رجب رفعه وقال: "لعله موقوف".

6- قوله "قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء" أي: مادام على هذا الحال كلما أذنب استغفر، والظاهر أن مراده الاستغفار المقرون بعدم الإصرار.

7- لا يكاد يرد طلب المغفرة إذا خرج من قلب منكسر بالذنوب، أو وافق ساعة من ساعات الإجابة، كالأسحار وأدبار الصلوات.

8- لا يشترط تجديد التوبة كلما ذكر المعصية خلافا للقاضي أبي بكر الباقلاني، ومحل الخلاف ما لم يتهيج ويفرح ويلتذ بذكر المعصية أو سماعها، وإلا وجب التجديد اتفاقا.

ويأتي السؤال تبعثه الأحاديث: هل المقصود من العود إلى الذنب عود إلى جنسه، أو عود إلى ذنب من جنس آخر من الذنوب، ويكون على هذا أنه لا يغفر له إن أذنب فتاب ثم نقض التوبة بالعودة إلى جنس الذنب، أي: أنه ليس له من كل جنس من الذنوب إلا ذنب واحد، فإن عمله وتاب. فليس له أن ينقض التوبة ؟

لا يسوغ أن يغفل -هنا- عن أن إيقاع التوبة بعد العود إلى الذنب مظنون، لانصراف الهمة عنها إلى الذنب، أو لمعاجلة المنية المجهولة أجلها، فبيده أن يمنع نفسه عن الذنب مجاهدة، وليس بيده أن يحدث توبة بعد الذنب لعروض ما يمنع منها.

ثمة افتراضان يطرحان للوصول إلى تحديد المعنى:

- إذا قيل لا يضر بعد تحقق التوبة العودة إلى نفس الذنب، فقد أقررنا بجواز نقض العزم على عدم العود، وهو شرط من شروط التوبة مع الندم والإقلاع ورد الحق لصاحبه إذا كان الذنب في حق العباد، ولعل نقض العزم على ألا يعود لا يضر, إذا كان العازم صادقا حين عزم، بخلاف ما لو عزم من غير جزم وصدق

- وإذا قيل إن العود إلى نفس الذنب يضر بالتوبة فمعناه أنه تقبل التوبة من ذنب واحد، فإذا عاد إليه وأراد أن يتوب وجد باب التوبة مغلقا في وجهه، ويبقى مفتوحا من ذنب آخر مغاير لجنس الأول، وهذا بعيد فيما يبدو... والنصوص تأباه، ويكفيه خبر من قتل مئة نفس، وعزم على التوبة، فقبل تائبا مع أنه تكرر منه الذنب، ولا يخدش الفهم كونه رجع بعد تسعة وتسعين قتلهم، إذ تراكم الذنوب لا يمنع من قبول توبة التائب منها، وكذا لو أفردت وأحدث لكل ذنب منها توبة صادقة.

قال النووي في الحديث: إن الذنوب، ولو تكررت مئة مرة، بل ألفا وأكثر، وتاب في كل مرة، قبلت توبته، أو تاب عن الجميع توبة واحدة، صحت توبته.

ويدل على هذا:"اعمل ما شئت" كما في الحديث، فمعناه: مادمت تذنب فتتوب، غفرت لك.

وقد قيل للحسن:"ألا يستحي أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه، ثم يعود، ثم يستغفر، ثم يعود، فقال: ود الشيطان لو ظفر منكم بهذه، فلا تملوا من الاستغفار


دبي 12/08/2008