إشعاعات
تاريخ الإضافة : 2013-03-12 04:45:28

قطوف من حديقة المدهش لابن الجوزي ..2

11 - الجواب

  لا، بل الهمل أو السفل من الناس.

وتأملوا هذه العبارة من الإمام أحمد؛ حيث يقول: إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد! فقد استرحت.

يعني: كراحة هؤلاء الذين سفلت همتهم.

وقد قيل للإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ فقال: عند أول قدم في الجنة.

ويقول الشاعر: أحزان قلبي لا تزول حتى أبشر بالقبول وأرى كتابي باليمين وتسر عيني بالرسول صلى الله عليه وسلم.

وقال الأمير شمس المعالي قابوس: اقتناء المناقب باحتمال المتاعب، وإحراز الذكر الجميل بالسعي في الخطب الجليل.

وعالي الهمة لا يعرف التوسط، يعني: إما يصل إلى غايته، وإما أن يموت، كما يقول الشاعر: ونحن أناس لا توسط عندنا لنا الصدر دون العالمين أو القبر تهون علينا في المعالي نفوسنا ومن خطب الحسناء لم يغلها المهر وأحدهم لما عوتب لشدة اجتهاده قال لمن عاتبه: إن الدنيا كانت ولم أكن فيها، وستكون ولا أكون فيها، ولا أحب أن أغبن أيامي.

يقول الشاعر: انفضوا النوم وهبوا للعلا فالعلا وقف على من لم ينم فالصلاة خير من النوم، والتجلد خير من التبلد، والمنية خير من الدنية، ومن عز بز.

فثب وثبة فيها المنايا أو المنى فكل محب للحياة ذليل فترى عالي الهمة منطلقاً بثقة وقوة وإقدام نحو غايته التي حددها على بصيرة وعلم، فيقتحم الأهوال، ويستهين بالصعاب، قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: (عليكم بكل أمر مزلقة مهلكة)، يعني: لا تلقي نفسك بنفسك، ولكن عليك بجسام الأمور دون سفاسفها، وعليكم بالمخاطرة والجرأة والإقدام.

وقال أمير المؤمنين معاوية رضي الله تعالى عنه: (من طلب عظيماً خاطر بعظيمته)، يعني: بروحه.

وقال كعب بن زهير: وليس لمن لم يركب الهول بغية وليس لرحل حطه الله حامل وقال آخر: ذريني أنل ما لا ينال من العلى فصعب العلى في الصعب والسهل في السهل تريدين إدراك المعالي رخيصة ولابد دون الشهد من إبر النحل وقال الشريف الرضي: رمت المعالي فامتنعن ولم يزل أبداً يمانع عاشقاً معشوق وصبرت حتى نلتهن ولم أقل ضجراً دواء الفارك التطليق والفرك هو بغض أحد الزوجين للآخر، وفي الحديث: (لا يفرك مؤمن مؤمنة؛ إن كره منها خلقاً رضي منها آخر).

فهنا يقول: (رمت المعالي فامتنعن)، يعني: امتنعنت علي؛ لأنه عشق المعالي فامتنعت منه فظل يصارعها ويطلبها، كدأب العاشق والمعشوق.

وقوله: (ولم أقل ضجراً: دواء الفارك التطليق)، أي: لم أقل: إن الذي يفرك يضرب زوجته ويطلقها، ولم أطلق المعالي، لكنني صبرت حتى نلتها.

وعالي الهمة دائم الترحال في طلب مبتغاه حيث لاح له، كما قال الشاعر: همم تقاذفت الخطوب بها فهرعن من بلد إلى بلد ويقول آخر: إذا لم أجد في بلدة ما أريده فعندي لأخرى عزمة وركاب وقال: مالك بن الريب: وفي الأرض عن دار المذلة مذهب وكل بلاد أوطنت كبلادي

قوة عزيمة عالي الهمة وبذله وتضحيته

وعالي الهمة لا يزال يطير إلى المعالي بجناح الهمة، لا يلوي على شيء، ولا يستفزه لوم اللائمين، ولا تخبيط القاعدين، يعني: أن من خصائص عالي الهمة أنه مع تفرده في الطريق، والوحشة التي هو فيها لا يقوى أحد أبداً على أن ينقص من عزيمته، كما قال الشاعر: سبقت العالمين إلى المعالي بصائب فكرة وعلو همة ولاح بحكمتي نور الهدى في ليالي الضلالة مدلهمة يريد الجاهلون ليطفئوه ويأبى الله إلا أن يتمه وقال الشماخ بن ضرار يمدح عرابة الأوسي: رأيت عرابة الأوسي يسمو إلى الخيرات منقطع القرين إذا ما راية رفعت لنجد تلقاها عرابة باليمين وقال أبو القاسم السعدي: أعاذلتي على إتعاب نفسي ورعيي في الدجى روض السهاد إذا شام الفتى برق المعالي فأهون فائت طيب الرقاد ومن أراد الجنة سلعة الله الغالية لن يلتفت إلى فلوم لائم، ولا عذل عاذل، ومضى يكدح في السعي لها، قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء:19].

وقال صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل؛ ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة).

والسلعة الغالية لابد أن تدفع لها ثمناً غالياً.

وقدر السلعة يعرف بقدر مشتريها، فمن الذي يشتري أرواح المؤمنين؟ {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ} [التوبة:111]، فقدر السلعة يعرف بقدر مشتريها، ويعرف أيضاً بقدر الثمن المبذول فيها، والمنادي عليها، فإذا كان المشتري عظيماً والثمن خطيراً والمنادي جليلاً كانت السلعة نفيسة، قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ} [التوبة:111].

يقول الشاعر: أنت يا مفتون ما تبرح في بحر المنام فدع السهو وبادر مثل فعل المستهام واسكب الدمع على ما أسلفته وابك لا تلو على عذل الملام أيها اللائم دعني لست أفضي للملام إنني أطلب ملكاً نيله صعب المرام في جنان الخلد والفر دوس في دار السلام وعروساً فاقت الشم س مع بدر التمام طرفها يشرق بالخ ط مضياً بالسهام ولها قضو على خ د كنون تحت لام أحسن الأتراب قداً في اعتدال وقوام مهرها من قام ليلاً وهو يبكي في الظلام وقد لا يتسنى له إدراك بغيته مع علو همته وشدة سعيه، لكنه يقول: عليَّ أن أسعى وليس عليّ إدراك النجاح فقد لا يتسنى للمرء إدراك بغيته وتحقيق غايته؛ لأمور خارجة عن إرادته، فلا يفعل ذلك من عزيمته، ولا يحط من همته، بل يعزي نفسه أنه أدى ما عليه، وأعذر إلى نفسه، ومبلغ نفس عذرها مثل منجح.

يقول الطائي: وركب كأطراف الأسنة عرسوا على مثلها والليل تسطو غياهبه لأمر عليهم أن تتم صدوره وليس عليهم أن تتم عواقبه وقال آخر: سأضرب في طول البلاد وعرضها أنال مرادي أو أموت غريبا فإن تلفت نفسي فلله درها وإن سلمت كان الرجوع قريبا ويقول آخر: عجبت لهم قالوا تماديت في المنى وفي المثل العليا وفي المرتقى الصعب فأقصر ولا تجهد يراعك إنما ستبذر حباً في ثرى ليس بالخصب فقلت لهم مهلاً فما اليأس شيمتي سأبذر حبي والثمار من الرب إذا أنا أبلغت الرسالة جاهداً ولم أجد السمع المجيب فما ذنبي يعني: مادمت أنا لم أقصر في إقامة الحجة على الخلق، وهم لم يستجيبوا، فما ذنبي أنا؟ فالداعية عالي الهمة يتمثل دائماً قول الصالحين قبله: معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون، فإذا لم تتحقق كل غاياتهم فحسبهم أنهم كانوا كما قال سيد قطب رحمه الله تعالى: كانوا أجراء عند الله، أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا عملوا، وقبضوا الأجر المعلوم.

فأنت أجير تعمل وتقبض الأجر من الله سبحانه وتعالى، وليس لهم ولا عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مصير؛ فذلك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير.

وحسبهم أن النبي قد يأتي يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان والثلاثة، وقد يأتي نبي وليس معه أحد؛ لأنه لم يستجب له أحد، وقد قال الله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ} [الشورى:48]، وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة:272].

وذكرنا أن الهمة وظيفة قلبية محلها القلب، ومن ثم لا سلطان لأحد على الهمة حتى ولو كان له سلطان على الجسد؛ لأن الهمة عمل القلب والقلب لا سلطان عليه إلا لله سبحانه وتعالى، وقلنا: إن قوة المؤمن كامنة في قلبه وإن القلب يحيا بالعلم والهمة، وناقشنا لماذا يستبدل بعض الناس الذي هو أدنى بالذي هو خير، وتكلمنا عن تفاوت الهمم حتى بين الحيوانات، وكيف يتفاضل الناس بتفاوت هممهم، وذكرنا أن عالي الهمة بقدر ما يتعنى ينال ما يتمنى.

ومن خصائص عالي الهمة أنه لا ينقض عزمه، قال عز وجل: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]، فهو لا يعرف التردد، بل متى ما حدد غايته يمضي إليها ولا يلوي على شيء، ولا يلتفت إلى لوم اللائمين ولا عذل العاذلين، وهذا هو الأدب الذي أدب الله سبحانه وتعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ))، وامتدح الله سبحانه وتعالى الصالحين بقوله: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ} [الرعد:20]، وقال تعالى: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].

ولما أشار بعض الصحابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل غزوة أحد بالخروج إلى المشركين ومقاتلتهم خارج المدينة، نزل صلى الله عليه وسلم على رأيهم، مع أنه كان يرى خلاف ذلك، لكنه نزل على رأيهم وأخذ بمشورتهم، وبعد أن صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمسلمين دخل إلى منزله فتدجج بسلاحه وظاهر بين درعيه ثم خرج على قومه بكامل عدته الحربية، وأذن فيهم بالخروج إلى العدو، وكان ذوو الرأي من الأنصار أو هؤلاء الذين أشاروا قد ندموا حين شعروا أنهم قد استكرهوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على اتباع خطة معينة لمقاتلة العدو كان هو يفضل غيرها، فندموا على ما أشاروا به وأنهم خالفوا مشورته، وقالوا: ما كان لنا أن نخالفك ولا نستكرهك على الخروج فاصنع ما شئت، وامكث داخل المدينة كما أمرتنا، فلم يرض أن ينقض همته؛ لأنه عزم ومضى وحدد فلا يتردد، وقال لهم مصمماً على الخروج: (ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين وبين عدوه)، يعني: لا ينبغي لنبي إذا لبس كامل سلاحه الذي يخرج فيه للقتال أن يضعه، بل مادام قد عزم فلا يتردد، ولا ينقض ما هم به وما عزم عليه.

وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت الأنصار عمر إلى أبي بكر ليحبس الجيش أو ليولي عليهم رجلاً أقدم سناً من أسامة، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم قد هيأ أسامة للخروج لمحاربة الروم، وكان أسامة حديث السن جداً في ذلك الوقت، فالأنصار بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت عمر إلى أبي بكر أنه إما أن يحبس الجيش ولا يرسله وإما أن يغير الأمير ويعين شخصاً أكبر سناً من أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما.

فقال أبو بكر: (والله! لو علمت أن السباع تجر برجلي إن لم أرده ما رددته، ولا حللت لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: إن الأنصار أمروني أن أبلغك وهم يطلبون إليَّ أن تولي أمرهم رجلاً أقدم سناً من أسامة، فوثب أبو بكر وكان جالساً، فأخذ بلحية عمر فقال: ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب! استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه؟!) يعني: هل أنقض أنا أمراً عزم عليه الرسول عليه الصلاة والسلام؟ فخرج عمر إلى الناس فقالوا له: (ما صنعت؟ فقال: امضوا ثكلتكم أمهاتكم، حسبي ما لقيت في سبيلكم من خليفة رسول الله).

وحين جاءه عمر في حروب الردة يقول له: (تألف الناس وارفق بهم.

فقال أبو بكر: رجوت نصرتك وجئتني بخذلانك! أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام؟! إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أوينقص الدين وأنا حي؟! قال عمر: فما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال حتى عرفت أنه الحق).

والشاهد من الواقعتين: أن أبا بكر رضي الله عنه الذي هو أفضل البشر بعد الأنبياء، تعلم هذا الأدب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا مضى وعزم لا يتردد ولا يشتت همته ولا ينقض عزمه.

قال جعفر الخلدي البغدادي: ما عقدت لله على نفسي عقداً فنكثته.

فإذاً: الشخص الذي تعلو همته وتكبر همته إذا حدد غايته ومنهاجه في الحياة فإنه لا يتردد فيه ولا يتلعثم ولا ينقض العزم الذي عزم عليه، فإذا نوى التوبة يستقيم على التوبة، وإذا نوى الإقلاع عن فعل معين وعاهد الله على ذلك يوفي بعهده ولا ينقض هذا الميثاق.

وقال صالح بن أحمد: عزم أبي -أي: الإمام أحمد - على الخروج إلى مكة ورافق يحيى بن معين، فقال أبي: نحج ونمضي إلى صنعاء إلى الإمام عبد الرزاق، يعني: بعدما يحجان يسافران إلى اليمن ليلقيا الإمام عبد الرزاق الصنعاني حتى يحدثهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فمضينا حتى دخلنا مكة، فإذا عبد الرزاق في الطواف، يعني: أنهما خرجا على أساس أنهما بعد الحج يذهبان إلى اليمن، ففوجئا بالإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني في الطواف، وكان يحيى يعرفه، فطفنا ثم جئنا إلى عبد الرزاق فسلم عليه يحيى وقال: هذا أخوك أحمد بن حنبل فقال: حياه الله، إنه ليبلغني عنه كل ما أسر به ثبته الله على ذلك، ثم قام لينصرف، فقال يحيى: ألا نأخذ عليه الموعد، يعني: نأخذ عليه موعداً في مكة كي يحدثنا بدلاً من أن نسافر إلى اليمن، فأبى أحمد وقال: لم أغير النية في رحلتي إليه.

فأبى الإمام أحمد أن ينقض عزمه أو أن يهدم نيته السابقة في السفر إلى اليمن في طلب العلم، ولذا قال له: لم أغير النية في رحلتي إليه، أو كما قال، ثم سافر إلى اليمن لأجله، وسمع منه الكتب وأكثر عنه.

وقال الحافظ أبو إسحاق الحبال: كنت يوماً عند أبي نصر السجزي فدُق الباب فقمت ففتحته، فدخلت امرأة وأخرجت كيساً فيه ألف دينار فوضعته بين يدي الشيخ، وقالت: أنفقها كما ترى.

يعني: أنفق هذا المال كما ترى، قال: ما المقصود؟ يعني: ماذا تقصدين بهذا؟ قالت: تتزوجني، ولا حاجة لي في الزواج، ولكن لأخدمك، يعني: أنها كانت امرأة صالحة تريد أن تتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بأن تخدمه؛ لتعينه على ما هو فيه من نشر العلم، فأمرها بأخذ الكيس وأن تنصرف، فلما انصرفت قال الإمام: خرجت من سجستان بنية طلب العلم، ومتى تزوجت سقط عني هذا الاسم، وما أوثر على ثواب طلب العلم شيئاً، يعني: أنه لم يخرج بنية الزواج ولا غيره، فهو لا يريد أن ينقض نيته في الخروج إلى طلب العلم بأي أمر آخر.

ومن ذلك أيضاً ما يذكره بعض القصاص من أن رجلاً خطب امرأة ذات منصب وجمال فأبت الزواج به لفقره ولقلة حسبه، وقالت له: أنت فقير وما تصلح، ففكر بأي الأمرين ينالها أبالمال أم بالحسب، فاختار الحسب، يعني: أنها أخذت عليه أنه فقير وأنه ليس ذا حسب، فقال: أعالج عندي هاتين الصفتين فإما أن أنال الحسب أو أنال المال، فاختار أن ينال الحسب، فطلب العلم من أجل أن يكون له شهرة وصيت ويكون له حسب وشهرة بالعلم، ومعنى هذا: أنه كان يقصد من طلب العلم التأهل لزواج هذه المرأة، فطلب العلم حتى أصبح ذا مكانة، وحينئذٍ بعثت إليه المرأة تعرض نفسها، فقال: لا أوثر على العلم شيئاً، يعني: أنه لما طلب العلم أرشده إلى تصحيح النية وإلى الأعمال الصالحة فدخل في عداد قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، فتورع بترك امرأة كان طلب العلم لأجلها إعلاناً بصدق قصده وسلامة مأربه.

فمن كل هذا نخلص إلى أن الإنسان إذا اختار له طريقاً فلا يتردد ولا ينقض عزمه ولا همته ولا نيته.