إشعاعات
تاريخ الإضافة : 2013-10-24 10:58:59

كيف صاغ الإسلام العلاقات بين أفراد المجتمع ؟

أرسى العلاقات على أساس الإخاء ، ودعا إلى تحقيق مقتضياته في الواقع ، لئلا يبقى الإخاء مرسوما لا أثر له في الحياة !

وقد سما الإسلام بهذه الألوان وبيَّن ما فيها من حقوق، وما فيها من معالم الإيثار، ولكننا نقف عند هذا النوع من الأخوة، وهو الأخوة في الإيمان والأخوة في الله لنقتطف بعض ما في حقوق هذه وتلك من معالم الإيثار في دين الله، وفي كتاب الله -عز وجل.

لقد وصل الإسلام في هذا التآخي إلى صور فاقت أحلام الفلاسفة وأصحاب المدن الفاضلة،

وهؤلاء الأنصار -كما نعلم- لا يشعرون بضيق في الصدور إذا ما وجدوا إخوانهم المهاجرين، وقد سبقوهم بالفضل والثناء من الله، والمهاجرون أهل لذلك حقًّا، فهم كما قال تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}

لقد آثر الأنصار إخوانهم المهاجرين بما عندهم رغم حاجتهم إلى النفقة، وتلكم والله أفضل الصدقة، وأعظم العطاء أن تُعطي الشيء وأنت في أشد الحاجة إليه، وهؤلاء كما رأينا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، أي: كان بهم حاجة شديدة إلى ما آثروا به غيرهم، وقد ذكرنا ما كان من أمر أبي طلحة الأنصاري -رضي الله تعالى عنه.

فهذه قلوب هيمن عليها الإيمان وجمعها رب العالمين على مائدته، وأقامها على قلب أتقى قلب رجل واحد، إنها منة إلهية، وتدبير رباني لا تستطيع الحصول عليه قوى الأرض مهما بذلت في سبيل من جهد ومن مال، بل لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما استطاعت أن تحصل على هذه الذي يسره لرسوله، وجعله من أسباب نصرته ونصرة دينه، حتى لقد كان هؤلاء الأحبة مثلًا حيًّا لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منهم عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))، ولمسلم: ((المسلمون كرجل واحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله، وإذا اشتكى رأسه اشتكى كله)) إنها صورة حية نابضة بالإيمان تُرشدنا إلى كثير من حقوق أخوة الإيمان، ولذلك قال تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 62، 63).

ومما يجمع هذا الحقوق وصف الله لأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيث يقول ربنا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) فهم قوة تُرهب أعداء الله تراهم في ساحات القتال جيوشًا تصول وتجول يخشى بأسهم أهل الكفر والضلال، ولكنك تراهم فيما بينهم يفيضون رقة وأدبًا وخلقًا

وتواضعًا، وودًّا وتراحمًا، والعجب فإن من صفات المؤمن أنه أليف مألوف قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أقربهم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، المطَّئون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون))، فإحساس المؤمن بإخوانه، وشعوره بحاجتهم، وحرصه على ما ينفعهم أسس في العلاقات بين إخوة الإيمان.

وإذا كنا نتحدث عن الإيثار في كتاب الله، وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن صور الإيثار بين الإخوة المتحابين في الله لا تراها إلا في أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومن بعدهم من سلف الأمة الصالح، وإلى يومنا هذا ترى بعض هذه الصور المشرقة بنور الله لمن آمنوا بالله حق الإيمان، وربطت العلاقات الإيمانية والمحبة الإيمانية بين قلوبهم؛ فكان لقاؤهم لله ومن أجل الله، وما أجمل حياة هذا الإخاء أساسها، وما أكرم عيشًا يظله هذا الحب بظله الرحيم.

وقد علمنا أن حقوق الإخوان كثيرة: هناك الحقوق المالية والحقوق الأدبية، وهي في النهاية تشكل سياجًا متينًا يحوط هذه الأخوة من كل جانب يحميها من كل خطر ويدفع عنها كل سوء، ولما لا وهي أخوة نبتت في جو طهر وسُقيت من معين الإيمان، ورعتها العناية الإلهية وحرصتها القوة الربانية، إنها أخوة لله وفي الله ومن أجل الله، لا يجتمع أصحابها من أجل غرض من أغراض الحياة الدنيا، ولا عرض من أعراضها الزائلة فتزول بزوال هذا الغرض، وتتحول بتحول هذا العرض إنما هي باقية ممتدة؛ لأنها مرتبطة بالباقي الذي لا يزول، ولذلك بقيت وامتدت إلى يوم القيامة وإلى ما بعد يوم القيامة كما قال ربنا: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ *(لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم) مقررة لمضمون ما قبلها، والمعنى أن ما كان بينهم من العصبية والعداوة قد بلغ إلى حد لا يمكن دفعه بحال من الأحوال، ولو أنفق الطالب له جمِيع ما في الأرض لم يتم له طلبه من التأليف لأن أمرهم في ذلك قد تفاقم جداً.