370 - في ميدان اصلاح القلوب
خطبة الجمعة    370 - في ميدان اصلاح القلوب
تاريخ الإضافة : 2012-07-23 09:28:45

نص المادة

إن الحمد لله، اللهم ربنا لك الحمد على ما هديتنا وأوليتنا وأعطيتنا، ربنا ولك الحمد على الإيمان والإسلام والقرآن، ربنا ولك الحمد حتى ترضى ربنا ولك الحمد إذا رضيت ربنا ولك الحمد بعد الرضا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة وجاهد في الله حق جهاده، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت وسلمت وباركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد

عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته والإنابة إليه وما توفيقي ولا اعتصامي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب وهو رب العرش العظيم.

الله جل جلاله يقول:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا ۚ إِنَّ وَعْدَ اللَّـهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّـهِ الْغَرُورُ ﴿٣٣﴾ إِنَّ اللَّـهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴿٣٤"

أما بعد أمة محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم

روى عبد الله بن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه قال هلك من لم يكن له قلب يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، من لم يكن له قلب يعرف المعروف وينكر المنكر هلك

لعلي بدأت بهذا، والحديث عن آنية الله عز وجل في الأرض قلوب العباد، الحديث عن القلوب يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام حديث خطير ولئلا يظن الظان أن الحديث عن القلوب يعني أن يغمض الانسان عما حوله، ذلك أن صلاح القلوب إنما يفضي إلى صلاح الجوارح، وصلاح الجوارح إنما يتبدى في إقامة شرع الله تبارك وتعالى، وهيهات للجوارح أن تقيم شرع الله عز وجل في بيئة غارقة في الجهالة، غارقة في الغفلة عن الله جل جلاله، غارقة في حب الدنيا، غارقة في المعاصي والشهوات والشبهات، لذلك سمعنا حاتم الأصم رضي الله تبارك وتعالى عنه يقول بل يخبرنا بأن القلب الذي ليس فيه هذه الحقائق قلب على شفا خطر من لم يكن في قلبه أمور دل هذا على أن قلبه قريب من الشقاء والعياذ بالله تبارك وتعالى

الحقيقة الأولى من لم يكن في قلبه ما كان يوم الميثاق يوم قال الله تبارك وتعالى (هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي) ترى في أي القبضتين كنت أنا؟

ويوم أن يرسل الملك لينفخ الروح ويأمر بكلمات منها شقي أو سعيد، ترى ما الذي جاء الأمر به يا ترى؟ أجاء الأمر بأنه شقي أو سعيد؟

والحقيقة الثالثة هي يوم ينتهي الأجل وتنفصل الروح عن البدن بطلاق بائن بينونة كبرى إلى أن يأذن الله عز وجل بالنشور بعد البعث، هو يمطلع ترى أيبشر برضوان الله عز وجل أم بسخط الله جل جلاله؟

والحقيقة الرابعة والأخيرة يوم يصدر الناس أشتاتاً "فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ" أي طريق يسلك بالانسان يا ترى هناك حينما يصدر الناس أشتاتاً

نبدأ بهذه الأمور الخطيرة أمة محمد عليه الصلاة والسلام لنتبين ما الذي ينبغي أن تعمر به القلوب لتكون صالحة؟ تعمر بالتوحيد ومعرفة الله، تعمر بمحبة الله عز وجل، تعمر بالتوكل على الله والإنابة إلى الله والتعلق بالله جل جلاله، والتسليم لله عز وجل والرضى عن الله تبارك وتعالى، تعمر بأن الله عز وجل قد قسم الأرزاق وأن رزقه لا بد أن يأتيه وما عليه إلا أن يأخذ بالأسباب التي شرعها الله عز وجل لكسب الرزق

القلب الذي يعمر بأن يشهد نعمة الله عز وجل عليه، فإذا به يوظف نعمة الله عز وجل فيما خلقت من أجله، أي في طاعة الله جل جلاله، القلب الذي يعمر بأن الشدة إذ تنزل والمصيبة التي تحل إنما عليه أن يشهد أن هذا من الإبتلاءات "لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ "، "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّـهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّـهِ قَرِيبٌ ﴿٢١٤" فإذا به يسلم لله عز وجل في تصاريف القدر، وإذا به يرضى عن الله تبارك وتعالى بذلك وإذا به يحقق الصبر الذي يقربه من الله جل جلاله

ينأى القلب يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام عن كل ألوان الشرك بالله جل جلاله، ينأى عن الجهل بالله والجهل بصفات الله والجهل بأسماء الله والجهل بأفعال الله والجهل بتصاريف أقدار الله تبارك وتعالى، ينأى القلب كي يسلم لصاحبه عن الاستغراق بحب الدنيا ذلك الحب الذي ذم ما دام يحجبه عن الله جل جلاله، ينأى عن مجالسة العصاة وعن محبة الطغاة

القلب السليم الذي يأتي به الانسان الله جل جلاله كما قال ربنا "يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴿٨٨﴾ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّـهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴿٨٩﴾" هو الذي سلم وباختصار من الشبهات ومن الشهوات الحرام

من الشبهات التي تعارض الخبر سواء جاء بآية أو حديث عنه صلى الله عليه وسلم، والشهوات التي ترجح مطالب الهوى والنسل على أوامر الله عز وجل ونواهيه، هذا هو القلب السليم الذي يسعد به صاحبه

ولو افترضنا أنه قد أعطيت القلب وقد أعطيته سالماً نظيفاً على الفطرة مشرقاً نقياً راقياً ثم خضت في غمار هذه الدنيا ثم رحلت إلى الله جل جلاله، لو سئلت ما الأمانة التي أمنك الله عز وجل عليها؟ ألم يأمنك على قلب نقي تقي صاف كان على الفطرة عرف بالله جل جلاله، فما الذي فعلت؟ لا بد من أن يحضر الجواب يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام

سفيان الثوري وهذه كانت من بعض مذكراتهم فيما بينهم من بعض اهتماماتهم التي عبروا عنها، قال لأحد الصالحين يا فلان هل أبكاك قط علم الله فيك؟ يا فلان هل أبكاك قط علم الله فيك؟ قال إنه تركني لا أفرح أبداً، وسفيان الثوري ربما بكى وحيث يسأل عن سبب بكاءه يقول والله ما أدري إذا كنت في أم الكتاب عنده شقياً والعياذ بالله عز وجل، الخوف من سوء الخاتمة يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام، الخوف في أن نكون لا سمح الله من الأشقياء فيما كتب في اللوح المحفوظ، هذه كلها من الحواضر للحقائق التي لا بد من أن تعمر بها القلوب، فإذا ما امتلأت القلوب بهذه الحقائق كان الحذر يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام الحذر من الأقوال والأفعال والأحوال والمواقف ذلك أنه ربما استدرج الانسان ولو كان قمة علمية أو قمة في الصلاح ربما تدرج والعياذ بالله عز وجل يستدرج فإذا بسوء الخاتمة تحط رحالها عند نزعه الروح، ضربته سكرات الموت فإذا به يبكي، قيل له أتخاف من الذنوب أخذ قشة من الأرض فقال والله لذنوبي أهون عندي من هذه، مما تخاف إذن؟ قال أخاف أن أسلب الايمان عند نزع الروح

وقد قال ربنا جل جلاله "إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَـٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ﴿١٠١﴾ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ۖ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ ﴿١٠٢لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَـٰذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴿١٠٣ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴿١٠٤﴾" أأنت من أولئك الذين سبقت لك من الله الحسنى؟

أما قال ربنا جل جلاله "وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّـهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ۚ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ ﴿٦٠ وَيُنَجِّي اللَّـهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿٦١"

"وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّـهِ" حرفوا أحكام شريعة الله عز وجل قالوا عن الباطل إنه حق وقالوا عن الحق إنه باطل، وركنوا إلى الذين ظلموا، "وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّـهِ" فنسبوا لله عز وجل ما لا يليق بعظمة الله ونسبوا إلى شريعة الله عز وجل ما لم ينزل به الله سلطانا، ما أعظم قلبك يا رسول الله 

الرسول عليه الصلاة والسلام كان صاحب أعظم قلب في هذا الوجود، كان صاحب أنقى وأصفى وأرقى وأرق قلب في هذا الوجود، وأحب القلوب إلى الله عز وجل أصفاها وأرقها وأصلبها، ولعلك حينما تسمع هذه الصفات والحبيب عليه الصلاة والسلام كان القمة فيها، تقول ما الجامع يا ترى بين الصفاء والرقة والصلابة؟ لا بد يا أيها المسلم من أن يكون قلبك الأصفى والأرق والأصلب

الأصفى حتى ترى به الحق حقاً والباطل باطلاً، والأرق كي تتأثر بالحق وتستجيب له كي ترق للمظلومين المضطهدين المعذبين المطاردين، والأصلب لتقف إلى جانب الحق بقوة لا يهن لك بها عزيمة تقف شامخاً مع الحق لأن قلبك وهو من وراء الجوارح إنما هو من الصلابة بالمكان وفرق كبير بين القسوة والصلابة "فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّـهِ ۚ"، إذا كانت قلوبهم قد قست من ذكر الله، أفتلين لغير ذكر الله  يا ترى؟ "ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ "

الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي نصبه الله عز وجل أسوة حسنة هو لنا أسوة في ظاهره وباطنه عليه الصلاة والسلام ظاهره كباطنه وباطنه كظاهره

ومن هنا قال العلماء إن الله جل جلاله قد زكى لسان الرسول عليه الصلاة والسلام فقال "وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ ﴿٣ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ﴿٤" وزكى بصره فقال "مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ ﴿١٧﴾" وزكى فؤاده فقال "مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ ﴿١١﴾" وشرح ربنا جل جلاله صدره عليه الصلاة والسلام فقال "أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴿١" وزكى الله عز وجل عقله عليه الصلاة والسلام فقال "مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ ﴿٢﴾" وزكى الله عز وجل كله عليه الصلاة والسلام فقال "وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴿٤﴾"

فأي قلب هذا القلب قلب المصطفى عليه الصلاة والسلام الذي استوعب المشاهد من الملك والملكوت تلك التي أراه الله عز وجل إياها ليلة الإسراء والمعراج، أي قلب وعى "سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ ﴿١٤﴾" وأي سمع سمع صريف الاقلام تجري بالأقدار، وأي حال حاله عليه الصلاة والسلام والله عز وجل يوحي إليه ما أوحى 

الرسول عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وقف إماماً بالأنبياء ليدل بإمامته على تقدمه عليه الصلاة والسلام ووقف يثني على الله جل جلاله قال الحمد لله الذي أرسلني "رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"، أرسلني للناس كافة "بَشِيرًا وَنَذِيرًا"، وأنزل علي الكتاب فيه تبيان لكل شيء، وجعل أمتي "أُمَّةً وَسَطًا"، وجعلهم الأولون والآخرون، وشرح لي صدري، ووضع عني وزري، ورفع لي ذكري، وجعلني خاتماً وفاتحاً أو كما قال عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم

هذا بعض نضح قلبه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ذلك القلب الرباني العرشي الذي شهد عظمة الله جل جلاله وهيمنت عليه أنوار صفات الله وأنوار أسماء الله جل جلاله، فقام يدعو إلى الله تبارك وتعالى قام من أجل أن يحقق العدل الرباني والإخلاص الرباني والصدق الرباني والمساواة الربانية في هذا المجتمع البشري 

وقد بين عليه الصلاة والسلام أحوال القلوب من أجل أن نتبين من أي هذه القلوب قلب كل منا قلب أجرد فيه مثل السيراج يزهر وهو قلب المؤمن سراجه نوره، ونوره يستمده من حقائق التوحيد

وقلب أغلف عليه رباطه وهو قلب الكافر ذلك الذي ربط على قلبه لأنه أعرض عن الله تبارك وتعالى

والقلب المنكوس وهو قلب المنافق الذي عرف ثم أنكر

والقلب المسطح وهو قلب فيه نفاق وفيه إيمان فمثل الايمان فيه كمثل البقلة يغذيها الماء العذب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد فأي المدتين غلبت، غلبت عليه كيف يلقى الله تبارك وتعالى ذلك يلقاه على المادة التي غلبت على قلبه إما قيح وصديد إما نفاق وكذب ودجل وخلف وعد وقلب للحقائق، وإما أنه يستنير بأنوار الايمان ويكشط كل ما علق بقلبه من أحوال النفاق    

أمة محمد عليه الصلاة والسلام

بأوضح الواضحات بين الله عز وجل نماذج لم يذكرها بأسماءها لأنها نماذج عامة وقد جاء عليه الصلاة والسلام ليقرر هذا أيما تقرير حديثه صلى الله عليه وسلم الذي رواه عبد الله بن مسعود إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم أكمل فإذا به يبلغ مئة وعشرين يوماً ثم يرسل الله عز وجل الملك فينفخ الروح ويمرمكك بكلمات منها شقي وسعيد رزقه أجله عمله شقي أو سعيد، ثم يقول عبد الله بن مسعود والذي لا إله غيره إن أحدهم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدهم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها

فريقان إنسان يسعى فوق هذه الأرض فيما يبدو للناس أنه على جانب من الصلاح ولكن هناك دسيسة لا محالة في باطنه هذا ما قرره العلماء، لو أن باطنه كان نقياً صافياً كظاهره الذي يبدو للناس أنه نقي طاهر ظاهر، لو كان الباطن كالظاهر لما ساءت خاتمته، متى تسوء الخاتمة؟ حينما يكون في باطنه دسيسة من الدسائس، الكبر من الدسائس، والحسد من الدسائس، والغفلات من المتواليات على قلبه من الدسائس، وحب الشهرة والظهور بين الناس إنما هو من الدسائس، سطوة العلم يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام من أكبر الدسائس

يقول المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام علماء السوء هؤلاء يفسدون في الأرض أكثر من الجهال، لأن عالم السوء يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام يضل الناس عن علم، والناس ربما خدعوا به، يقول عالم السوء كالصخرة تقع في مجرى النهر فلا هي تشرب ولا تدع الماء يشرب منه الناس، عالم السوء كقناة الحُش الكنيس أو المراحيض لها مجارير لولا أن المجارير تسقف لما أطقنا رائحتها، علماء السوء كقناة الحُش الظاهر لا شيء فيه وأما الباطن فمنتن، علماء السوء كالقبر في الظاهر ربما كان عليه الرخام وفي الباطن فيه عظام نخرة بالية أو جيبة قذرة

ومن هنا سمعنا الله تبارك وتعالى يقول "كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّـهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴿١٦ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴿١٧"

هذا المثل يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام لم يذكر ربنا جل جلاله اسم من هو ذلك الذي تمثل له الشيطان، فقال له اكفر فاستجاب للشيطان ودعائه إليه بالكفر، فكفر، لماذا يا ترى؟ مع أن كتاب السيرة أو مع أن المفسرين وكتاب التاريخ قالوا هذا عالم من العلماء يسمى بلطيطة، وكان راهباً من الرهبان وكان يأتيه الناس يتباركوا به ويتمسحوا به، وقد جمع الشيطان جنده وقال لهم إن فلاناً أي بلطيطة قد أعياني، أما منكم من أحد يقدر عليه؟ فانتصب شيطان من الشياطين وقال أنا أقدر عليه، قال افعل

فذهب إليه وما زال يتقرب منه ويلوذ بجنابه ويتمسح به حتى أغراه لأنه من المعجبين به، ثم ما كان من أمر إمرأة من نساء المدينة وكان يعيش الراهب في ضاحيتها إلا أن مسها مس من جنون فما كان من الشيطان إلا أن وسوس لأهلها أن عليكم بذلك الراهب فإنه مبارك وجيء بالمرأة إلى الراهب إلى صومعته وصنع لها مكان بجانب الصومعة ثم طلب من الراهب أن يقرأ عليها وقرأ عليها لكن الشيطان كان قد كشفها في بعض الأحيان، ثم أغراه قال له هذه فرصة لا تتكرر عليك بها وما أحد يدري فأتاه زناً والعياذ بالله عز وجل ثم ما كان منها إلا أن حملت، فقال له الشيطان إنك فعلت فعلة تفتضح بها ما عليك إلا أن تسترها، كيف أسترها؟ قال تسترها بأن تقتلها وتدفنها وتقول إنها رجعت بريئة من مرضها، وفعل ذلك الراهب ما وسوس له به الشيطان فقتل تلك المرأة ودفنها

ثم جاءت الرؤية إلى أولئك الذين هم أقارب المرأة، وقال لهم إن الراهب قد فعل كذا وكذا بأختكم وما صدقوا بادئ الأمر لأنها رؤية لكنها تواطأت رؤاهم على ذلك، جاؤوا إلى الراهب فأخذوه ثم سحبوه إلى الملك ليقتص منه وعلى الطريق عرض له الشيطان قال أنا ورطتك هذه الورطات إذا ما استجبت لي الآن خلصتك مما أنت فيه، وكيف أفعل؟ قال ما عليك إلا أن تسجد لي سجدة واحدة ثم أخلصك مما أنت فيه وسجد له ثم تخلى عنه الشيطان تبرأ منه "كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّـهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴿١٦" وقد أكد العلماء على أن قول الشيطان ههنا "إِنِّي أَخَافُ اللَّـهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴿١٦" لم يكن على الحقيقة لأنه لو كان يخاف الله رب العالمين على الحقيقة لما دعى إلى المعصية ولما جعل الحق باطلاً والباطل حقاً

أسمعنا بهذا يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وإذا كنا قد سمعنا فيه لا بد لنا من أن ننظر ترى هل يأتينا الشيطان بين الحين والآخر ليوسوس لنا بمعصية من المعاصي وشرك من الشرك، هنا ينبغي أن نحذر لأن الله عز وجل أنزل القرآن والقرآن فيه ما فيه من المواعظ والبشائر والبصائر والهدايات والتسديدات

ثم يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام

بلعام بن باعوراء كان قمة في العلم وقد كان ينظر من الأرض فيرى العرش، منزلة عالية ثم علمه الله عز وجل اسمه الأعظم الذي إذا دعاه به اجابه، وما زال به قومه حتى أغروه أن يدعو على نبي من الأنبياء، ركب حمارته وتوجه إلى ذلك النبي ليدعو عليه، وأبت الحمارة أن تسير معه وما زال يضربها ويضربها حتى إلتفتت إليه فقالت ويحك أما ترى الملائكة تصدني، وألح وألح حتى وصل إلى مكان ذلك النبي بدلاً من أن يدعو عليه لوى الله عز وجل لسانه فدعى على نفسه وعلى قومه الذين أغروه بالدعاء على ذلك النبي "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴿١٧٥ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ "

نبهني الله وإياكم من رقدة الغافلين وحشرني وإياكم في زمرة عباده المتقين فاستغفروه فيا فوز المستغفرين

الحمد لله ثم الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة وجاهد في الله حق جهاده، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت وسلمت وباركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

عباد الله إن حسن الخاتمة وسوء الخاتمة إنما هما في الأزل مقررتان "إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ" ويقابل هذا من علم الله عز وجل أنه يوافيه على الشقاء والعياذ بالله تبارك وتعالى، ونحن بين يدي ليلة مباركة هي ليلة النصف من شعبان، هناك الكثير ممن يقولوا حينما يأتي أو تأتي ليلة النصف من شعبان أنه ليس في ليلة النصف من شعبان أي حديث أو خبر

وهناك من يأتي إلى الدعاء المأثور عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ليقول إن هذا الدعاء ما عرفه الصحابة ولا التابعون ولا من تبعهم وإنما هو من صنع القرون المتأخرة هذا ربما سمعناه ولكن الحقيقة كما نقلها العلماء قال أحد العلماء الذين توفوا رحمهم الله تبارك وتعالى إن الدعاء المأثور عن عبد الله بن مسعود رضي الله تبارك وتعالى عنه هو الدعاء الذي ثبتت صلته بابن مسعود وحيث ثبتت كيف يقول القائل ليس هناك دعاء خاص بليلة النصف من شعبان

أما قال عبد الله بن مسعود دعوات ما دعى عبدٌ الله عز وجل بهن الا وسعت عليه معيشته يا ذا المن ولا يمن عليه يا ذا الجلال والإكرام يا ذا الطور والإنعام لا إله إلا أنت ظهر اللاجئين جار المستجيرين مأمن الخائفين إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقياً فامحو عني اسم الشقاوة وأثبتني في أم الكتاب سعيداً موفقاً للخير فإنك قلت في كتابك الذي أنزلت "يَمْحُو اللَّـهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴿٣٩"

أما نقل عن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه كان يقول في طوافه اللهم إن كنت كتبتني عندك شقياً مذنباً فامحو عني الشقاء والذنب وأثبتني عندك سعيداً تائباً إليك قابلاً توبته لديك، أما ورد أدعية عن السلف الصالح كلها تشير إلى أننا في ليلة النصف من شعبان نقبل على الله جل جلاله بالدعاء، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي جاء بعضها في السنن وبعضها في المسانيد وهذا يرد قول من قال ليس في ليلة النصف من شعبان حديث يساوي سماعه وقد نقل هذا عن القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تبارك وتعالى في كتابه الأحكام أحكام القرآن وفي كتابه العارضة وتناقله اولئك الذين إنما يتاجرون بمثل هذه الأقوال علماً بأن العلماء قد حرروا ما قاله القاضي فقالوا إن قوله ليس في ليلة النصف من شعبان حديث يساوي سماعه إنما هو مجازفة وكيف لا يكون مجازفة وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الأحديث الحسنة بل هناك من الأحاديث من رقاها إلى الصحة وهناك دون ذلك لكنها بمجموعها تثبت أن هناك فضل لليلة النصف من شعبان

إن الله عز وجل يطلع إلى عباده ليلة النصف من شعبان فيغفر للمؤمنين ويملي للكافرين ويدع الحاقدين لحقدهم حتى يدعوه، السيدة عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها تفقدت في ليلة الرسول عليه الصلاة والسلام فإذا ما وجدته قال يا عائشة هذه ليلة النصف من شعبان يضطلع الله عز وجل فيها لعباده، فيغفر لعباده بعدد شعر غنم كلب أو كما قال عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم

وجاء في الحديث أن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا لغروب الشمس مع بداية ليلة النصف من شعبان فيقول المنادي ألا هل من مستغفر فأغفر له، ألا هل من مسترزق فأرزقه، ألا هل من مبتل فأعافيه، ألا كذا ألا كذا إلى طلوع الفجر، فنحن بين يدي هذه الليلة التي تذكرنا تباشيرها بليالي رمضان علينا أن نحدث توبة حقيقية صادقة لله عز وجل وأن نسأل الله عز وجل حسن الخاتمة ذلك أن حسن الخاتمة بيد الله جل جلاله ومن خاف من سوء الخاتمة أمنه الله عز وجل من سوء الخاتمة، أما أولئك الذين قد اغتروا بأقوالهم أو بأفعالهم أو بعلومهم هؤلاء الذين ظنوا أنهم لا يمسهم سوء الخاتمة هؤلاء جهلوا الكثير الكثير من الحقائق

أكثروا من الصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله تبارك وتعالى قد صلى عليه في محكم كتابه بقوله "إِنَّ اللَّـهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴿٥٦﴾"، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت وسلمت وباركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الصحابة الخلفاء السادة الحنفاء سادتنا وموالينا أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

يا ذا المن ولا يمن عليه يا ذا الجلال والإكرام يا ذا الطول والإنعام لا إله إلا أنت ظهر اللاجئين جار المستجيرين مأمن الخائفين إن كنت كتبتنا عندك في أم الكتاب أشقياء فارفع عنا اسم الشقاوة وأثبتنا عندك سعداء موفقين للخير فإنك قلت في كتابك الذي أنزلت "يَمْحُو اللَّـهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴿٣٩"

إجعلنا اللهم والمسلمين محفوفيين بألطافك الخفية وإجعلنا أينما توجهنا متوجهين إليك لا تردنا اللهم عنك إلا إليك، اللهم ثبت علينا الايمان، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

اغفر اللهم لنا ولوالدينا ولمشايخنا ولمن حضر معنا ولمن غاب عنا منا ولكافة عبيدك المسلمين آمين والحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وأقم الصلاة.