384 - في أجواء عشر ذي الحجة
خطبة الجمعة    384 - في أجواء عشر ذي الحجة
تاريخ الإضافة : 2012-07-23 09:28:45

نص المادة

إن الحمد لله، اللهم ربنا لك الحمد على ما هديتنا وأوليتنا وأعطيتنا، ربنا ولك الحمد على الإيمان والإسلام والقرآن، ربنا ولك الحمد حتى ترضى ، ربنا ولك الحمد إذا رضيت ، ربنا ولك الحمد بعد الرضا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة ، وجاهد في الله حق جهاده.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد ، كما صليت وسلمت وباركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد

عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته والإنابة إليه ، وما توفيقي ولا اعتصامي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب ، وهو رب العرش العظيم.

الله جل جلاله يقول: "يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم * يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد"

أما بعد: أمة محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم !

فقد جاء من جملة ما جاء من هذه الشريعة الغراء التي جمعت فأوعت ، التي دلت البشرية على خالقها- سبحانه وتعالى- والتي مهدت السبيل ليصل من التزم بها في حياته ، وسلك سبيلها إلى رضوان الله- جل جلاله- والتي بها تسعد البشرية ، ودونها تشقى ،" افعلوا الخير" دهركم. ما أروعه من أمر أمة محمد عليه الصلاة والسلام!" افعلوا الخير" دهركم ، وإن لله نفحات في أيام دهركم ،فتعالوا نتعرض لنفحات الله من رحمته، فرب نفحة أصاب بها الله- عز وجل-  من يشاء من عباده، ما العلاقة يا ترى بين الفعل " افعلوا " وبين ما دلنا عليه حبيبنا- عليه الصلاة والسلام- من التعرض لنفحات من رحمة الله ؟

الأرض كلها متعبد لله جل جلاله ، والظروف الزمانية كلها فيها نتقرب إلى الله- عز وجل- نتقرب إليه بالأنفاس ، كما نتقرب إليه بالساعات ، ودقات القلوب، ولكن هناك مواسم يا أمة محمد- عليه الصلاة والسلام- إن كان عمرك يا ابن آدم كله موسم ، فهناك مواسم إنما تفتح فيها أبواب السماء ، ويكثر فيها العطاء ، ويوشك الله- تبارك وتعالى- أن يلحق بها المقصر بالسابق ،فما أعظمها شريعة ! يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام.

يقال فيها : يا غازياً في غفلة وراء قبيحة ! إلى متى تستحسن القبائح ؟ كم وكم لا تخاف موقفاً يستنطق الله به الجوارح، ولايقال هذا لمثل سعيد بن جبير حيث كان إذا دخل العشر من ذي الحجة اجتهد اجتهاداً لا يكاد يلحق فيه،ولايقال هذا لمثل ابن عمر وأبي هريرة- رضي الله عنهما- إذ كانا يأتيان السوق في العشر من ذي الحجة فيكبران ، فيكبر أهل السوق، أرأيتم سوقاً كهذه السوق يا أمة محمد- عليه الصلاة والسلام- ؟!! أتظن بأن الحيتان والتماسيح يستفحل خطرها في مثل هذه السوق التي تعظم الله- جل جلاله- تكبيراً وتحميداً وتقديساً وإقبالاً وشوقاً ومحبة.

إن مواسم الحج ، ونحن في موسم الحج، تلك التي تنفحنا فيها نفحات ، فإذا بالقلوب تحن ، وإذا بالأرواح تئن ، وإذا بالنفوس تشرئب لعلها ترزق ، إذا ما كنت هناك شهدت المشاهد ، وإن لم تكن هناك انطوى الصدر على كمد وألم ونية صادقة ، لعلها تلحق صاحبها حيث حبسته الحوابس ، بأولئك الذين أكرموا ، فكانوا في منازل الوحي الأولى ، يمكن أن نتحدث يا أمة محمد- عليه الصلاة والسلام- عن هذا، ولكنا نرجع لنقول : اسمعتم قول الله عز وجل: "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي" هذه الآيات ختمت بها سورة الفجر، وما أدراك ما سورة الفجر! سورة الفجر ضمت اثنتين وثلاثين آية، هي سورة مكية ، بدأ الله- عز وجل- بأقسام ، أقسم بها بمظاهر كونية، كلها تصب في معين الزمان ، وعقب الله- عز وجل- على ذلك بأن ذكر لنا مصارع الطغاة المتجبرين المستبدين ، ثم بين الله- عز وجل- لنا الميزان المختل بأيد أناس ظنوا أن العطاء في هذه الدنيا أو المنع ، إنما هو لمحبة الله عز وجل لمن يعطي ، وبغضه لمن منع !! لا، يا أمة محمد- عليه الصلاة والسلام- إن العطاء والمنع في هذه الدنيا يدخلان في دائرة الاختبار، ثم عقبت الآيات على ذلك ، فبينت إذا زادت النفوس حيث أقبلت تلتهم المال التهاماً ، تسرق الخزائن والجيوب ، وتستأثر بالثروات طغياناً وعدواناً وافتراءً ودجلاً ونفاقاً ، ثم جاء المشهد العجيب الذي فيه تدك الأرض دكاً "كلا إذا دكت الأرض دكا * وجاء ربك والملك صفاً صفا * وجيء يومئذ بجهنم * يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى * يقول يا ليتني قدمت لحياتي * فيومئذ لا يعذب عذابه أحد * ولا يوثق وثاقه احد" نترك هذا لنبين أن سورة الفجر إنما جاءت في الترتيب القرآني عقب سورة الغاشية ، وما أدراك ما سورة الغاشية !! بينت حال أولئك الذين ينصبون ، لكن في الشرك والضلال !! "هل آتاك حديث الغاشية * وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة * تصلى ناراً حامية" يدخل فيها أولئك الدجالون المهرجون الذين يسكتون على الظلم والظلام ! أولئك الذين يزيفون الحقائق ! أولئك الذين يبررون العدوان والطغيان " وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة" ما مصيرها "تسقى من عين آنية " ما طعامهم؟ " ليس لهم طعام إلا من ضريع * لا يسمن ولا يغني من جوع" ولأننا قلنا  إن بعض الناس لا عقوبة تعجل لهم في هذه الدنيا ، بل كل العقوبة قد ادخرها الله- عز وجل- للظالمين هناك ،وهناك أقوام عجل لهم بعض ما لهم من عقوبة ، حتى لا يكون كل ذلك خارج دائرة الدنيا ،وقد جاء قول الله عز وجل على هذا في سورة الفجر "ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في البلاد * وثمود الذين جابوا الصخر بالواد * وفرعون ذي الأوتاد  * الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد * فصب عليهم ربك سوط عذاب * إن ربك لبالمرصاد"

هناك على بوابة البرزخ من يستقبل استقبالا حافلا بالتكريم !! وقد قال الصديق: يا رسول الله! ما أحلى هذا الكلام ! حيث تلا- عليه الصلاة والسلام- قول الله عز وجل "يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية" فقال له: يا أبا بكر! والله إنه ليقال لك ذلك ، أجل الصديق الذي هشم الردة ، وقضى عليها ، وأطفأ نيرانها ، الصديق الذي وقف في عزمة صديقية مع دين الله- عز وجل- وقال: أينقص الدين وأنا حي، تعال- الآن-  يا أبا بكر! فانظر إلى اولئك الذين يدّعون نسبتهم إلى الله- جل جلاله- وإلى دين الله- عز وجل- وهم آثمون فجرة ، هم الذين يجعلون من اللادينية ديناً !!.

أمة محمد- عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- ! النظر في الماضي سنعرض له على أنه من الضرورات التي تبني التصور لمجريات الأقدار، دل عليه ما قصه الله عز وجل علينا من قصص الأقوام السابقين ومصارعهم، والنظر في الحاضر أمر لا بد لنا منه، كي نبني الحاضر، ونتعظ بالماضي ، ونستقي منه الدروس ، والأمر في المستقبل هو البوصلة التي توجه السلوك ، حيث ما ينبغي أن تقول قولاً ، أو أن تقف موقفاً ، أو تتحرك فيك مشاعر من المشاعر إلا وتجعلها تكن لك فيما يستقبلك- هناك- عند الله عز وجل.

 لا تكن ظالماً ، ولا تركن إلى الذين ظلموا بحال من الأحوال ، لا تؤيد الذين ظلموا بالسكوت إن كان بالإمكان أن تنطق ، ولا تكن مع الذين ظلموا بالتأييد الشعوري أو الفعلي ، لأنك إن ركنت إلى الذين ظلموا مستك النار، أما سمعت قول الله عز وجل: "ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون * ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة" أين الحاشية؟ وأين الأوتاد؟ ما الأوتاد؟ يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام " وفرعون ذي الأوتاد " الآيات التي ذكرت المصارع، مصارع عاد وثمود وفرعون !! فيم أهلكهم الله- عز وجل- لم صب عليهم سوط عذاب ؟؟؟ لأنهم طغوا في البلاد ، والطغيان لا ينتج إلا الفساد  " فأكثروا فيها الفساد " عاد قالت متبجحة :" من أشد منا قوة " وغفلوا عن الله- جل جلاله- وأما ثمود فكانوا عمالقة ، أو شبه عمالقة ، نحتوا الجبال ، فإذا بها تصنع منها القصور والكهوف والبيوت ، ولكنهم غفلوا عن نعمة الله عز وجل عليهم، كذب وإعراض عن الله ، ووثنية وعبادة لكل ما سوى الله- جل جلاله- فرعون ذو الأوتاد!! يمكن أن نفسر القرآن بالقرآن " الأوتاد " قال المفسرون : الجنود الذين وتدوا سلطان فرعون ،سندوا كرسيه الذي جلس عليه أربعين سنة ! من وطده ؟ جنوده ، الدليل  "هل آتاك حديث الجنود * فرعون وثمود " أما الإهلاك فكان يتناسب مع الجريمة ، ومع الطغيان ، أهلكت ثمود بالطاغية ! صيحة واحدة  حولتهم إلى هشيم !! "وأما عاد فأهلكوا بريح صرر عاتية * سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما * فترى القوم فيها صرعى    * كأنهم أعجاز نخل خاوية * فهل ترى لهم من باقية * وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة " ما المؤتفكات؟ قرى لوط ! يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام ! انتكست فطرتهم ، وأتوا بفاحشة كانوا رواداً فيها !! لكنهم رواد بالشر، لارواد بالخير، فنكس الله- عز وجل- عليهم قراهم ، جعل عاليها سافلها ! وأمطر عليهم حجارة من السماء ! فكانت العقوبة منوعة ومضاعفة " والمؤتفكات بالخاطئة * فعصّوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية "و "هل آتاك حديث الجنود " جاء البدل: فرعون وثمود ، ذلك أنه لولا جنده لطار بنفخة بل بهمسة ، لأنه دون الريشة وزناً، إذن فإن الله-عز وجل-بين لنا ما نحن بأمس الحاجة إليه من مصائر الطغاة !! وقد أقسم ربنا- جل جلاله- بظروف زمانية ، هي الأيام التي نعيشها "والفجر* وليال عشر* والشفع والوتر* والليل إذا يسر* هل في ذلك قسم لذي حجر" ظروف زمانية بم ارتقت هذه الظروف ؟ بما يكون فيها من إقبال على الله- عز وجل- بخلاف أولئك الذين أعرضوا عن الله جل جلاله ، فقد بين الله عز وجل أنه لو أنعم علينا بظروف زمانية ، ودلتنا شريعة الله على ما به نتقرب فيها إلى الله- جل جلاله- ماذا نرى هناك في مكة ! يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، نرى المطاف، ماذا في المطاف؟ تمحور، حول ماذا؟ حول البيت العتيق، وما البيت العتيق؟  "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين " أول بيت وضع ليحقق الناس فيه العبودية لله- عز وجل- البيت العتيق ! ألا يستحق منا أن نطوف به أمة محمد عليه الصلاة والسلام ؟ يمكن أن نلحظ ههنا أن الوثنية كانت في وقت من الأوقات ، ولا أقصد هنا الوثنية المعاصرة ، تلك التي ملئت الدنيا بأصنامها ، والأصنام اليوم أكثر من أصنام البارحة ذلك أن الأصنام الحجرية- يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام- أصنام ساقطة في نظر العين قبل أن تسقط في نظر الفكر، ما الذي فعل بالأصنام الهالكة ؟ أقبل- عليه الصلاة والسلام- لما فتح الله- عز وجل- عليه مكة ، وأخذ يقرأ قول الله- عز وجل- "قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا" وتنكست الأصنام إلى غير رجعة ، يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام!! وهذا ما تتطلع إليه قلوب المسلمين قاطبة ، تتطلع إلى أن تسقط كل الأصنام ، حيثما كانت تلك الأصنام ، سقوطاً فيه التهشيم الكامل ، وفيه التزرية البالغة التي لا تدع ذرة من ذرات تلك الأصنام في هذا الوجود ، لأجل أن لا تعلق في الآذان  ، فتسدها عن سماع الحق ! ولئلا تدخل في الجهاز التنفسي فتفسده .

ماذا نرى هناك في الديار المقدسة ؟؟ ونحن بحاجة ، وإن كنا بعيدين أن نستحضر بعض المشاهد ، تعالوا بنا إلى منى ،نطل على المشهد : لله در منى وما جمعت ... وبكى الأحبة ليلة النفر،،، فاضت العيون لما غربت الشمس على أهل الموقف هناك ، ونحن نتطلع بقلوبنا إلى ما يفيضه الله- تبارك وتعالى- على هذا الموقف من رحمات ومغفرة وتجليات فإذا بإبليس وهو عدونا اللدود وينضم إليه كل جنوده في مشارق الأرض ومغاربها جنود إبليس الذين يصدون عن سبيل الله ، جنود إبليس الذين يسفكون الدماء بغير حق ، جنود إبليس الذين يعتدون على الأموال والأعراض والمقدسات، إبليس كان أحقر ما يكون ، وأصغر ما يكون  وأدحر ما يكون قط ، ثم ماذا إذا جئنا إلى منى- يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام- وفي الطريق إلى منى هناك واد بين المزدلفة ومنى، وادي المحسر، أو المحسر، أسرع فيه- عليه الصلاة والسلام- أسرع في سيره!! لم يا ترى ؟ للعلماء تعليلات ، أستطلع منها تعليلين اثنين ، الأول : أسرع في المكان الذي أهلك الله فيه أصحاب الفيل، هذا تعليل ذكر، ويمكن أن نقتطف بهذا أن المواقف التي فيها تجليات الغضب ما ينبغي أن يقر لنا فيها قرار، تماماً حينما توجه عليه الصلاة والسلام إلى تبوك ، مر- عليه الصلاة والسلام- بديار ثمود، وأقبل الناس فانتضحوا من الآبار مياهاً ،عجنوا عجينهم من تلك المياه ، ونادى منادي رسول الله- عليه الصلاة والسلام-" أن أريقوا ذلك الماء ،وأعلفوا العجين للإبل ، ولا تأكلوا منه شيئاً، ثم بين بعد ما قنع وجهه وأسرع السير، إذا دخلتم في ديار الظالمين فادخلوها باكين لئلا يصيبكم ما أصابهم " لئلا تقع الغفلة في القلوب والإعراض عن علام الغيوب- سبحانه وتعالى- إذا كان المرور بديار ثمود ، وقد قضى الله عز وجل عليهم من قرون !أفيسوغ في تلك الساحات أن نحولها إلى مسارح للسياح ؟؟ أو: أيصح يا ترى أن يقف المسلم اليوم بجانب الظالمين الذين ما زالوا يتنفسون أنفاس الحياة البشعة ؟ لا والله يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام " إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب "

في منى يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام المشهد الأول قدمت للرسول عليه الصلاة والسلام البدن التي ساقها البعض من المدينة المنورة، وكان عدد ما نحر عليه الصلاة والسلام منها  ثلاثة وستين بدنة ، بعدد سنين عمره- عليه الصلاة والسلام- نحر من البدن ثلاثة وستين بدنة بيده الشريفة- عليه الصلاة والسلام- ووزعت لحومها على الناس ، أي مشهدهذا !! كان يقدم له- صلى الله عليه وسلم- كل خمسة بدن مرة واحدة، خمسة من البدن كانت تقرب إليه ، تعال معي فانظر ما حال تلك البدن التي أو البدن التي كانت تقرب للرسول عليه الصلاة والسلام ؟؟

رأى الصحابة تلك البدن الخمسة تزدلف بنحورها له- عليه الصلاة والسلام- وكأن كل بدنة تقول: انحرني قبل أختي يا رسول الله !! كيف درت أنه رسول من الله ؟ وهذا ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة " ما من شيء بين السماء والأرض إلا ويعلم أني رسول الله " وقد قال الشاعر الهندي المحب لما وقف على هذا المعنى ، قال: إن ظباء الغابة وقفت على شاطئها  ،حين علمت أن الصياد الحبيب قادم، حين علمت أن الصياد الحبيب قادم إليها وقد وضعت هامتها على راحاتها تقدمها رخيصة في شوق وغرام لذلك الصائد.

 " البدن " يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام ! تزدلف بين يدي المصطفى ، تتزاحم بين يدي المصطفى- عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- ألا ترخص الأرواح في سبيل الله جل جلاله بين يدي الذي دلنا عليه! رسولنا- عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- وكان عليه الصلاة والسلام يوجه من كان في منى ، أتدرون كم كان عددهم ؟ كانوا قرابة عشرين ومئة ألف، وقد انتشروا على منى وغطوها ، كان يخاطبهم أتدرون كيف ؟ لو كنا اليوم قد وصلنا الخيام بالآت تسجيل- كما هو حال الفنادق الكبرى التي تصل الغرف بمذياع واحد ، فإذا بالأذان يملأ الغرف كلها ، وهي مئات ، يقول الصحابة : كنا نسمع صوته- عليه الصلاة والسلام- ونحن في خيامنا !!!

أمة محمد ! عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، إذا أردنا أن نقترب لنرى ماذا في مكة المكرمة ، حينما نذهب إلى هناك نرى الطواف عكس عقارب الساعة !! قال العلماء مما يدل على أن الطائف يطوف ، وكأنه يغوص في الماضي ! أي ماض هذا ؟ الماضي القريب أم الماضي البعيد عنه ؟ وعليه وهو يطوف أن يغوص في الماضي البعيد والقريب، أما البعيد فيشهد الآفاق الطائرة قد ملئت المطاف ، هناك صعد الرسل الأنبياء ، هناك سافر الصديقون والصالحون والشهداء، هناك جاء العباد من كل فج عميق يلبون نداء الله- عز وجل- إذ دعاهم فلبوا الدعوة، هناك وقد جاء المسلمون من شطآن العالم كله ، من أعماق القارات الخمس يلبون دعوة الله ، هناك تظهر وحدة الأمة! تلك الوحدة التي أرادوا لها أن تجزأ وتقسم ، كم أقاموا من الحدود! ومن الفواصل! وكم زرعوا النفوس من الأنانيات ، ومن الفيروسات ابتغاء أن تقضي على شاشة الاستقبال ، وإذا بالانتماء للأمة ينقطع ، ليحدث لها انتماء آخر يتصل بالأرض وبما يتصل بها!!!.

نحن أمة مسلمة ، الأخوة الاسلامية ، الأخوة الايمانية هي المقدمة ، أما أولئك الذين يقدمون مصالحهم على الأخوة الإيمانية! على الأخوة الاسلامية ، والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ، ولا يسلمه ، أولئك قد فقدوا الصلة الحقيقية بإسلامهم، هناك يا أمة محمد- عليه الصلاة والسلام- يسترجع المسلم وهو يطوف كل خواطر الروحانية ، فإذا به يشهد مشهداً ليس له مثيل فوق هذه الأرض ، هناك احتفالات يا أمة محمد- عليه الصلاة والسلام- وهناك حشود ، لا نريد بهذه الحشود ، ولا بتلك الاحتفالات الاحتفالات المنافقة الدجالة ، وإنما نريد الحشود التي اجتمعت  على طاعة الله عز وجل! ومع ذلك يبقى للطواف رونق ، لك أن تطل عليه عبر القنوات الفضائية ، وهم يطوفون حول البيت العتيق! أي روعة هذه ؟ هناك تسكب العبرات يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام .

أما الماضي القريب ، وأنا أطوف أتذكر ما أذنبت، أتذكر ما  أقمت من مخالفات ، أتذكر الغفلات التي ألمت بساحة قلبي ، فإذا بهذا الخلق ينحرف كثيراً أو قليلاً عن شرع الله- تبارك وتعالى- وإذا بالدموع سخية بعدما تفجرت نيران الندم في قلبي وبين الضلوع !! هذا الطواف يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام هو الطواف الحقيقي الذي شرع الطواف من أجل أن يحقق، وماذا نرى أيضاً ؟ أشهدت ذلك الذي أتى الرسول- عليه الصلاة والسلام- لما كان متوسداً برده عند الكعبة ، أو في ظل الكعبة ؟انظر إليه ، تعرف إليه ، واستمع ما قاله للحبيب- عليه الصلاة والسلام-

هو أبو عبد الله خباب ابن الأرت- رضي الله عنه- جاء يقول : يا رسول الله! ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ يحكي حال الأمة حينما تحدق بها الخطوب ، وتنزل بها الضوائق ، وتشتد عليه الأزمات ، وترتفع درجة حرارة الطغيان فوقها ! النصر!! ليس لنا سوى الله جل جلاله، وهذا ما أكده- عليه الصلاة والسلام- لما اشتكي إليه خباب قال:" إنه كان فيمن قبلكم ، يؤتى بالرجل ، فيحفر له في الأرض ، فيوضع فيها ، ثم يؤتى بالمنشار!!!" وقد سألت نفسي لماذا لا يكون المنشار مع الحفرة حفرة القبور كما هي حال الوثنية المعاصرة ؟ قال: لا، من أجل أن يكون التعذيب تعذيبين ، تعذيب أن يوضع في الحفرة فيختنق قبل أن يختنق ! وتعذيب أن يؤتى بالمنشار آلة التعذيب- يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام- ولو أن الوثنية السابقة التي علينا أن نستحضرها ، ونحن حضورفي البيت العتيق ، أو نراقب الكعبة المشرفة ، ونستحضر هذا المشهد ، الوثنية السابقة لو كانت تدري عذاباً غير هذا العذاب لفعلت ، ماذا كانوا يفعلون يضعون المنشار على رأس هذا الذي امتلأ رأسه إيماناً ، وقد امتلأ صدره بحقيقة التوحيد ، ولأنه قال " لا إله إلا الله " ينشر!! يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، ثم ماذا ؟ " يؤتى بأمشاط الحديد فيمشط ما دون لحمه وعظمه ، ما يصده ذلك عن دينه!!" هنا المشهد، الابتلاء فيه حاضر يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، والصبر إنما هو طاعة لله- تبارك وتعالى- والصبر فيه سماحة النفوس !!وهناك يسقط الساقطون حين تشتد الكربات ، ويتأخر النصر في نظر من استعجل النصر، وفقد الطاقة على الصبر ! ثم ماذا بعد هذا تصفو الأمور، وتخلو الساحات من الأوشاب ، حيث تكون مستعدةً لاستقبال منن الله- تبارك وتعالى- ثم قال :" والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون " أو كما قال عليه الصلاة والسلام

نبهني الله وإياكم من رقدة الغافلين ، وحشرني وإياكم في زمرة عباده المتقين ، فاستغفروه فيا فوز المستغفرين

الحمد لله ثم الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة وجاهد في الله حق جهاده اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت وسلمت وباركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

عباد الله ! أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته ، وقد قال لنا ربنا- جل جلاله- : "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".

أما بعد أمة محمد عليه الصلاة والسلام

الأضحية سنة مؤكدة ، أو واجبة ، سنة مؤكدة عند الجمهور، وواجبة عند الأحناف ، ودليل الأحناف قول الله- عز وجل- "فصل لربك وانحر" والمفسرون قاطبة على أن الصلاة- ههنا- إنما هي صلاة العيد، والنحرإنما هو نحر الأضاحي ، وأيضاً الحديث " من وجد سعة لأن يضحي ولم يضح فلا يقربن مصلانا " وقد قالوا: هذا وعيد، ولا يكون الوعيد إلا لترك واجب أما ما يتعلق بما جاء عن العلماء مما يتعلق بالإمساك عن الشعر والأظفار، مع الدخول في عشر ذي الحجة ، فقد ذهب الجمهور إلى أن الامتناع عن الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي إنما هو سنة مستحبة ، إلا الحنابلة ، فقد ذهبوا إلى حرمة الأخذ من الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي ، أما الأحناف فقد ذهبوا إلى أنه لا شيء في هذا. نذكر هذا من أجل : أن الأولى أن نخرج من الخلاف ، فلا أحسن من أن يقال إن الإمساك عن الشعر والاظفار لمن أراد أن يضحي قد بدأ من قيام ليلة الجمعة ، الليلة المنصرفة ، ذلك أن هذه الليلة في حساباتنا إنما هي أول ليلة من ليالي ذي الحجة ، وبهذا ورد حديث أم سلمة- رضي الله تبارك وتعالى عنها-  ولو افترضنا أنه  غفل وأخذ من شعره وأظفاره ، فهل تسقط عنه الأضحية ؟؟ لا علاقة للأضحية من حيث صحتها وقبولها إن شاء الله بقضية الامتناع عن أخذ الشعر أو الاظفار، بمعنى أنه لو أخذ من شعره وأظفاره تبقى الأضحية مقبولة منه إذا ما تقرب بها إلى الله- عز وجل- أما الأضحية فمما يتقرب بها إلى الله- تعالى- وابتغاء رضوانه  في أيام النحر بشروط مخصوصة ، وهنا حكم واحد لا أجد نفسي إلا ناصاًعليه ، هل يضحى عن الميت؟  والحكم الآخر المتصل به: هل يقوم مقام الأضحية صدقة؟ العلماء على أنه لا يقوم مقام الأضحية صدقة ، لو أنه تصدق بثمنها يكون له أجر الصدقة،أجل يكون له أجر الصدقة ، وتبقى الأضحية في ذمته ، من حيث كونها سنة مؤكدة أو واجباً كما ذهب إليه الأحناف كما قدمت ، إذن لا يقوم مقام الأضحية صدقة، وقد قالوا: لو أنه أعتق رقبة قيمتها أكبر من قيمة الأضحية ، فإن عتق الرقبة لا يغني عن الأضحية ، يا أمة محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ! لو أن الميت وقف وقفاً للأضاحي أو وصى ورثته بأن يضحوا عنه- هنا- باتفاق العلماء يضحى عنه من قبل الورثة ، لأنه وصى ، فهذا لون من ألوان إنفاذ الوصية ، أو وقفاً فالأخذ من الوقف ههنا إنما هو لازم ، بمعنى أنه يجوز باتفاق العلماء إذا وصى أو وقف وقفاً أن يضحى عنه ، ولو افترضنا أنه لم يوص ، ولم يوقف ، ذهب الشافعية إلى أنه لا يجوز أن يضحى عنه ، إذا لم يوص أو لم يوقف ، وذهب الجمهور المالكية والحنابلة والأحناف إلى أنه يجوز أن يضحى عن المتوفى ولو لم يوصي ولو لم يوقف من مال نفسه الوارث لو أن يضحي إلا أن المالكية ذهبوا إلى أنه يجوز أن يضحى عن الميت لكن مع الكراهة ، وحيث قالوا مع الكراهة قالوا : لو هناك وصية من المتوفى غير أنه لم يوص بالأضحية ، وأراد الورثة أن يضحوا عن ميتهم ، لقدمت الوصية التي وصى بها المتوفى وأخرت قضية الأضحية عنه.

أكثروا من الصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله تبارك وتعالى قد صلى عليه في محكم كتابه بقوله "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت وسلمت وباركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الصحابة الخلفاء السادة الحنفاء سادتنا وموالينا أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

اللهم ربنا اجعلنا هادين مهدين لا ضالين ولا مضلين، اجعلنا اللهم أينما توجهنا متوجهين إليك لا تردنا اللهم عنك إلا إليك، اغفر اللهم لنا ولوالدينا ولمشايخنا ولمن حضر معنا ولمن غاب عنا منا واغفر اللهم لمنشئ هذا المكان المبارك ولمن أعان في بنائه ابتغاء وجهك الكريم آمين والحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وأقم الصلاة.