395 - في مكارم الأخلاق
خطبة الجمعة    395 - في مكارم الأخلاق
تاريخ الإضافة : 2012-07-23 09:28:45

نص المادة

إن الحمد لله، اللهم ربنا لك الحمد على ما هديتنا وأوليتنا وأعطيتنا، ربنا ولك الحمد على الإيمان والإسلام والقرآن، ربنا ولك الحمد حتى ترضى ربنا ولك الحمد إذا رضيت، ربنا ولك الحمد بعد الرضا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه وخليله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة وجاهد في الله حق جهاده اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت وسلمت وباركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

عباد الله ! أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته والإنابة إليه وما توفيقي ولا اعتصامي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب وهو رب العرش العظيم.

الله جل جلاله يقول:"إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا"

أما بعد أمة محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم !

فإن النظام الجاهلي سقط أي والله- يا أمة محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- سقط النظام الجاهلي ليقوم نظام الإسلام ، إن الوثنية من حيث هي منهج التزم به الوثنيون سقطت أيضاً ، سقطت الوثنية ليقوم التوحيد بدلاً رائعاً عنها ، فبمعول لا إله إلا الله حطمت الأصنام ، وبمحمد- عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- رسول الله إنما انمحت الجاهلية ، رحلت الجاهلية إلى غير رجعة ، وجاء الإسلام بأنواره وبصائره وحقائقه وخيره وسعادته وأعرافه ، ورحلت الوثنية- يا أمة محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- إلى غير رجعة ، وقام التكبير في مشارق الأرض ومغاربها ، ينادي به المنادي الله أكبر الله أكبر! فما الحديث- يا أمة محمد عليه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- عن الإسلام إلا هو حديث عن تلك المرتكزات والمنطلقات والأصول التي أرسى الله- عز وجل- بها دينه الذي اختاره وارتضاه ، ولعل من أهم مرتكزات الدين الخاتم الذي ختم الله- عز وجل- به الرسالات أنه قام على مكارم الأخلاق.

وربما انحصر الذهن ههنا- يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام- ببعض مكارم الأخلاق ، وغفل هذا الذهن عن أن مكارم الأخلاق تشمل كل التحسينات التي لا بد منها كي يرقى المجتمع ، كي تحل عقده ، كي ينطلق في بهجة وسرور، سرور بالله- عز وجل- من حيث الإيمان به ، وسرور بالمصطفى- عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- من حيث اتباعه ، وسرور بالمنهج من حيث إنه شمل كل جوانب الحياة ، مكارم الأخلاق يمكن أن ننظر إليها على أنها تتعلق بالله- تبارك وتعالى- على معنى أنك إذا ما تحليت بمكارم الأخلاق ، معنى ذلك أنك قد استحضرت عظمة الله ، وجلال الله ، وكمال الله- جل جلاله- فالقلوب مع مكارم أخلاقها أن تخشى الله- جل جلاله- وتتوكل على الله- جل جلاله- وتنيب إلى الله- جل جلاله- وتتعلق بالله- جل جلاله- وأما ما يتعلق بمكارم الأخلاق المتصلة بهذه الشريعة ، بحكم الله- جل جلاله- فهذا يقتضي أن يكون من تحلى من هذه الأمة ، وكل الأمة مطالبة أن تتحلى بمكارم الأخلاق ، ينبغي عليه أن يكون صابراً في الضراء والبأساء ، وشاكراً في السراء ، ومتعلقاً بأحكام شريعة الله- عز وجل- يصون بها كل حركاته وسكناته فوق هذه الأرض ، عليه أن يرضى عن الله- عز وجل- في تصاريف الأقدار، لأنه بذلك يكون قد رضي عن الحكيم العليم القادر- سبحانه وتعالى- ويعلم أنه ما من حدث فوق هذه الأرض إلا والله- تبارك وتعالى- مبدعه ، وكل حدث أبدعه الله- تبارك وتعالى- ما أبدعه إلا لحكمة ، ومن هنا وجدنا أنفسنا أمام مكارم الأخلاق المتعلقة بما ينتظم العلاقة بين الإنسان والإنسان ، أو بين المسلم والمسلمين ، أو بين المسلم والعالم كله ، مكارم الأخلاق- ههنا- يمكن أن نشهدها في حديثه- عليه الصلاة والسلام- الذي رواه كل من أبي ذر ومعاذ بن جبل- رضي الله عنهما- قال- عليه الصلاة والسلام- (اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن) أيّ مفردات هذه- يا أمة محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- التي سنقف قبالتها هنيهة ، ولكن قبل ذلك إذا رأيت من بلغنا هذه الرسالة ، تراه إذا ما جئته متهللاً... كأنك تعطيه الذي أنت سائله... الذي قام على تحطيم الأصنام ، الذي أزاح الشرك والوثنية والجاهلية من الصدور، ونسفها نسفاً بعدما غطت الجاهلية مشارق الأرض ومغاربها !

في الجاهلية- يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام- سلوكيات وكل ما نخشاه أن تعود الجاهلية بسلوكياتها ، كان فيها القوي يأكل الضعيف ، الحق مع القوة ، وحيث ينتصر الباطل معنى ذلك أن الباطل على حق ، الوسيلة إنما تبرر الغاية ، إذا كانت غايتي أن أكسب الأرباح ، غايتي أن أؤصل لي وجوداً فوق هذه الأرض ، معنى ذلك أني أستبيح الأعراض ، وأسفك الدماء ، وأهدم الديار، وأفني كل حياة فوق هذه الأرض ، والأنكى من ذلك أن يصاحب هذا الكذب الصريح، الكذب في تقويم الحقائق ، الكذب في نقل الأخبار وروايتها ، الكذب في وصف أولئك الذين يعاندون الباطل ويقفون في وجهه ، كذب استبق كذب مسيلمة ، وخلفه وراء ، بل خفف من وطأته ن فصار لا يثير النفور !!!.

من هنا وجدنا أنفسنا- يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام- نقف قبالة الذي حطم الوثنية ، وأذهب الجاهلية بهمّة شماء ، بعزيمة ربانية ، بيقين أرسخ من وجود هذا الكون ، بتوكل عجيب على الله- جل جلاله- بثقة بعطاءات الله- عز وجل- التي لا تنقطع ، هو محمد بن عبد الله- عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- إنك كما قال الشاعر : تراه إذا ما جئته متهللاً... كأنك تعطيه الذي أنت سائله... ولو لم يكن في كفه غير روحه... لجاد بها فليتق الله سائله... هو البحر من أي النواحي أتيته...فلجته المعروف والجود ساحله. بل: هو أعلى من ذلك- يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام- نزل جبريل يوماعلى الحبيب- عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- بشهادة تقدير، ممن الشهادة؟ الشهادة من العلي العظيم- سبحانه وتعالى- هنا نسوق مشهدا ، فيه رجع رب المنزل إلى منزله ، وجمع أولاده مع زوجته ، فلنبتهج يا عيالي ، بم يا ترى؟ قبل أن أقول ينبغي أن نأتي بالحلوى ، ما السر! ما الأمر! ما الطارئ الجديد الذي به نحتفل ! أخرج من محفظته الكبيرة شهادة تقدير، إنما وقعها مدير الدائرة ! وافرحتاه الجميع في طرب وحبور، شهادة التقدير، اختلفوا أين نعلقها ، على أي باب غرفة ؟ على أي جدار الجدران ،هي لا تصلح لمثل هذه الشهادة ، لأنها تحتاج إلى تجديد إلى تنظيف! وعلقت الشهادة ، وما أدري والله ما تابعت هذا ، ما الأحلام التي رادوت كل فرد من أفراد الأسرة ، الأبناء قالوا: أبونا أخذ شهادة تقدير، أباحوا بذلك فيمسامع زملائهم في المدرسة ، الزوجة أنفقت قرابة مئتي درهم هواتف تخبر صديقاتها ، زوجها أخذ شهادة تقدير، كل الشهادات- يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام- التي يصدرها الخلق للخلق في هذه الدنيا ، ونحن- هنا- لا نتكلم عن الشهادات المزورة ، كلها لا تسمن ولا تغني ، لن يدخل معك القبر أي شهادة من شهادات الدنيا ، بله شهادات التقدير! وإذا كنا نعتقد شهادات التقدير حيث تكون حافزاً على الجد والعمل والاجتهاد والإخلاص والإتقان والمثابرة والمتابعة ، ولكن الأمر- ههنا- يختلف يا أمة محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ! أي والله ، إن الأمر يختلف ، إذ نزل جبريل بقول الله- عز وجل- "وإنك لعلى خلق عظيم" شهادة من العلي العظيم- سبحانه وتعالى- يقول أحد المفسرين: والله ما أدري كيف أطاق- عليه الصلاة والسلام- هذه الشهادة ، ما أروعها ! ما أعمقها ! هي سطر بل سطور على وجه الكون ، هي في أعماق أعماق ضمائر الكون "وإنك لعلى خلق عظيم" يكفي التوكيدات- ههنا- يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام ! ويكفي أو تكفي الصياغة التي فيها التمكن الراسخ من هذا الذي اختاره الله- عز وجل- ليحمل الرسالة الخاتمة ،قد قام مقام رسل الله- عليه الصلاة والسلام- هو مكلف بأن يبلغ البشرية قاطبة رفع كتاب الله- تبارك وتعالى- همه، ما هم المصطفى- يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام- أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا " الرسول عليه الصلاة والسلام ثابت ثبوت الوجود ولا أقول ثبوت الراسيات الشوامخ ، أجل إنه ازداد تواضعاً لله- جل جلاله- ومحبة لله عز وجل ، وإقبالاً على الله- تبارك وتعالى- شهد حقائق كتاب الله- عز وجل- هذه الحقائق التي منها " قل لمن ما في السموات والأرض" رب للمكان كله ، كل رحاب الكون ، من يملكه ؟ من يملك ما فيه ، وما فيه ؟ " قل لمن ما في السموات والأرض" هو لله ، وأما الزمان- يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام- فقال فيه ربنا- جل جلاله- " وله ما سكن في الليل والنهار" كل الوجود بمجرّاته وذرّاته وإنسه وجنه ، وكل الظواهر الكونية فيه ، هي خلق الله ، إبداع الله- عز وجل- ولذلك كان- عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- يعلمنا ، وقد علمنا أن نقول ك (اللهم ما أصبح بي من نعمة ، أو بأحد من خلقك ، فمنك وحدك لا شريك لك) وأخبرنا- عليه الصلاة والسلام- أنه إذا استيقظ النائم من نومه فقال: سبحان الله الحي القيوم وهو على كل شيء قدير، سبحان الله الذي يحيي ويميت ، وهو على كل شيء قدير، ما الجواب ؟ يقول له الله- جل جلاله- " صدق عبدي وشكر" يعلمك كيف تتواصل مع من أبدعك ، التواصل مع الله- تبارك وتعالى- ههنا يعني : أنك تحقق العبودية كاملة لله- عز وجل- ما استطعت إلى ذلك سبيلا ، كان- عليه الصلاة والسلام- يشهد إمداد الله عز وجل لهذا الوجود ، كان إذا نزل المطر- يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام- حسربعض ثوبه ، فينزل بعض الماء على جسده الشريف- عليه الصلاة والسلام- وحيث سئل قال : إنه حديث بربه- تبارك وتعالى- هو عليه الصلاة والسلام الذي أثنى الله- عز وجل- عليه بقوله "وإنك لعلى خلق عظيم" ويعني هذا أنه على الإسلام، الخلق العظيم هنا إنما هوفي كتاب الله جل جلاله ، وهذه عائشة الصديقة بنت الصديق كانت الأدرى بهذا المعنى ، وعمقه ، لما سئلت عن خلقه- عليه الصلاة والسلام- قالت للسائل : أما تقرأ القرآن ؟ قال: بلى ، قالت: كان خلقه القرآن ، نحن نقتدي بمن نصبه الله- عز وجل- لنا أسوة حسنة ، إذ مثل في حياته أكمل صورة للبشرية ، وأرقى صورة للبشرية ، وأنفس صورة للبشرية ، ما من خلق كريم إلا تخلق به- عليه الصلاة والسلام- ما من شر إلا حذر منه ، ونهى عنه- صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- كتاب الله- عز وجل- فيه محابّ الله جل جلاله ، وحيث فيه محابّ الله ، فحيثما اتجهت في ميادين الخير فإذا بك ترى المصطفى- عليه الصلاة والسلام- لأنه كان الأسرع إلى محابّ الله " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا " صدقت يا ربنا.

أمة محمد عليه الصلاة والسلام ! كان- عليه الصلاة والسلام- يرضى لرضى القرآن ، ويسخط لسخط القرآن ، كان يكره الظلم والظالمين ، يكره الكفر والكافرين ن يسعى جاهداً من أجل أن ينقذ البشرية من ضلالتها وأوهامها وخرافتها ، فإذا به يضع جيل الصحابة على الصراط المستقيم ، أولئك الذين أقبلوا عليه- رضي الله تبارك وتعالى عنهم- ففهموا المرادات الرائعة ، وحددوا المقاصد التي أنزلت شريعة الله- عز وجل- من أجل أن تحققها في رحاب هذه الدنيا.

مكارم الأخلاق ! حث عليها- عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- حثاً عجيباً ، وجاء كتاب الله- عز وجل- يعرض علينا الجوانب الكثيرة منها ، كل الأخلاق الإسلامية تدخل في مكارم الأخلاق : الصبر والرضى الشكر والعفاف المحبة والإيثار التوكل على الله- عز وجل- والإنابة إلى الله- جل جلاله- محبة الصالحين ، واللواذ بركاب الجيل الذي سلف ، وقد رضي الله- تبارك وتعالى عنه- مكارم الأخلاق ! تعالوا بنا من أجل أن نستعرض مواقف ، كلها تدخل في مكارم الأخلاق ، فيما يتعلق- يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام- بشهادة الزور! كثر شهود الزور في القرن الحادي والعشرين ! ما أكثرهم ! ما أكثرهم وما أشد نفاقهم ! ونحن- ههنا- نقول : إذا كنا نقول إن النار مصير الإلحاد والمشركين ، ترى هل هذا يعفينا من أن نقول : إن المرائي الذي تنكب الصراط ، وغاب عنه وجه الله- جل جلاله- فما ابتغاه ، سعى من أجل الجاه والمنصب والمال والسمعة والشهرة ، أله الجنة ؟ نقول: إن الشرك مصيره النار، والإلحاد مصيره النار، فما مصير المرائي يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام ؟ ترى هل يحب الله- تبارك وتعالى- الظالمين ؟ هل يحب الذين ينتمون إلى الظالمين أمة محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ؟ حينما نقول: شهادة الزور نقصد أن الشاهد الحقيقي هو شاهد العدل ، لا الذي قد تلاعبت به الأهواء ، فإذا يقول عن الحق : إنه الباطل ، وعن الباطل أنه حق ، وكأنما يجسد أمراً فاكتشف الستر عنه الرسول- عليه الصلاة والسلام- حيث بين أنه لا تقوم الساعة حتى يؤتمن الخائن ويخون الأمين ، ويصدق الكاذب ويكذب الصادق ، شهادة الزور! تعالوا بنا إلى مشهد شهدته هذه الأرض ، حينما كان شرع الله- عز وجل- هو الذي يصوغ الحياة ، يصوغها ظاهراً ويصوغها باطناً ،  صاغها باطناً ، حيث ملأ الجوارح والقلوب بالحياء من الله ، والحياء من الله ثمرة الحضور مع الله- عز وجل- وقد قال الفضيل بن عياض- رضي الله تبارك وتعالى عنه- : " من رأى منكراً من أخيه فضحك في وجهه، من رأى منكراً من أخيه ، وما أكثر المنكرات التي لا يضحك في وجه منكرها ، أو الواقع فيها ، وإنما يصفق له ويحيا- يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام- تهريج ما بعده تهريج ! والفضيل: يقول من رأى منكراً من أخيه فضحك في وجهه فقد خانه ! أتريد أن تكون خائناً ؟ أيحب الله- عز وجل- الخائنين ، ويقول الفضيل بن عياض: بلغنا أن الله تبارك وتعالى يحاسب الرجل بحضرة معارفه ليكون أشد لفضيحته ، بلغنا أن الرجل يحاسب يوم القيامة بحضرة معارفه ليكون أشد لفضيحته ! ويقول كذلك إذا سقط الحياء من القلب سقطت معه كل مكارم من مكارم الأخلاق .

في مجلس كان يديره عمر بن الخطاب الفاروق- رضي الله عنه- الذي صاغته شريعة الله- تبارك وتعالى- صاغته فإذا به يدقق، صاغته فإذا به يحمل المسؤولية حملاً صادقاً ، لا حملاً كاذباً ، المسألة خطيرة يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام ! ومن ظن أنه يمكن أن يهرج على الناس ، فإنه غافل غفلة قاتلة ، غفلة مهلكة ، المسؤولية هي أن تجعل أمرك في حركاتك وسكناتك وأقوالك وأفعالك ومواقفك كأنما أنت بين يدي الله- جل جلاله- سجل في صحيفتك كل ما يسرك أن تقرأه غداً يوم القيامة ، يوم نعرض على الله- جل جلاله- لا تقدم بين يديك إلا ما يوضع في كفة الحسنات ، قدم بين يديك ما هو الأثقل ، حيث جاء عنه- صلى الله عليه وسلم- أنه ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق ، أو كما قال- عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- !.

شهد أحدهم في مجلس عمر فقال له عمر بوضوح قال له: أنا لا أعرفك ، ولا يضرك أني أعرفك ، حتى ما يكمدّ ذلك الرجل أويضيق صدره حيث يقول له أمير المؤمنين أنا لا أعرفك ، ثم قال له: ولا يضيرك أني لا أعرفك ، ليس من شرط أن تسعد أني أعرفك ، هذا هو الموقف الذي رأى عمر نفسه فيه ، لم يتسلط على الناس ولم يطغ ، الذي يطغى هو الجاهلي ، أبو جهل وتلامذة أبي جهل ! أما عمر هو ابن الإسلام ، هو ابن مكارم الأخلاق ، هو ابن الأحكام الشرعية ، ثم قال له: فأتني بمن يعرفك ، وإذا برجل في المجلس يقول: يا أمير المؤمنين! أنا أعرفه ، كان بالإمكان أن يمرّر عمر- رضي الله عنه- هذا.

قلنا : إن شهادة الزور اليوم يغفل فيها شاهد الزور أنه موقوف غداً بين يدي الله- عز وجل- شهادة الزور من أكبر الكبائر! قول الزور من أكبر الكبائر! غفل عن الله الذي يشهد الزور، فقال له عمر: تراك أنت جاره ترى نهاره وليله ومدخله ومخرجه؟ قال: لا ، إذن الجار يمكن أن يشهد لجاره ، أو يشهد على جاره ، قال: إذن عاملته بالدرهم أو بالدينار والدرهم ، وهما اللذان يعرف بهما الورع ؟ قال: لا ،قال : إذن سافرت معه ، وفي السفر تظهر مكارم الأخلاق ؟ قال: لا ، قال : إذن ما عرفته ، ائتني بمن يعرفك ! هذا مشهد- يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام- فيه التحقيق الرائع ، ليس فيه التبسيط التافه ، فيه مسؤولية الأمة أمام الله- جل جلاله- المسؤولية أمام عمر- رضي الله تبارك وتعالى عنه- ! وما عمر؟ يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام ، نحن مسؤولون غداً بين يدي الله- جل جلاله- تعالوا بنا إلى تلك الجارية التي كانت في السبي ، فقالت قولاً أدهشت فصاحته السامعين ! هي لم تكن سبياً ، قالت: يا محمد ! صلى الله عليه وسلم ، إن شئت أن تخلي أمري ، ولا تفضحني بين أحياء العرب ، فأنا ابنة زعيم قومي ، هو كان يحمي الذمار، يحميها لا بالدجل- يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام- إنما يحميها حقيقة ، وكان يفك العاني ويطعم الجائع ، ويكسو العاري ، ويكرم الضيف ، ويطعم الطعام ، وما ردّ من قصده في حاجة قط ، أنا ابنة حاتم طيء ! جيء بها إلى المدينة المنورة ، ما الموقف- هنا- يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام ؟ قال: يا جارية ! هذه صفة المؤمن ، ولو كان أبوك مسلماً لدعونا له بالرحمة ، أطلقوا سبيلها ، أجل ، أمر بأن يخلى سبيل تلك المرأة ، تلك الجارية ، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق ، ولو لم يكن مسلماً ، لكنه كان يحب مكارم الأخلاق ، أليس هذا من أروع الدعائم التي يدعم بها الرسول- عليه الصلاة والسلام- مكارم الأخلاق ، وأعطاها ما يمكنها أن تصل به إلى قومها ، وأمنها حتى بلغت مأمنها ، فجاءت إلى أخيها عدي بن حاتم ، وكان على نصرانية ، فنصحته أن يأتي الرسول- عليه الصلاة والسلام- .

مكارم الأخلاق ظهرت في سلوكياته- عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- أروع ظهور! تعالوا بنا إلى الجاهلية التي سقطت بكل أنظمتها ، ومن مرتكزات الجاهلية أن زعيم الجاهلية يأبى إلا أن يجعل البلاد و الحصاد كله بيده ، فرعون كان جاهلياً فإذا به يقول:" أليس لي ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحتي " فأجراها الله- عز وجل- فوق رأسه ، أبو جهل- فرعون هذه الأمة- ما حاله الاقتصادية يا ترى ؟ اقتصاديات مكة المكرمة كانت كلها في يديه ، وهذا شأن الجاهلية كلها ! لما جاء الإسلام هجم على المجتمع الجاهليّ هجمة رائعة ليكتسح الجاهلية من عروقه.

جاء رجل من زبيد جاء ببضاعة إلى مكة المكرمة ، ليبيعها فإذا بالقوم قد تراجعوا عن سومها ، لم يسمها أحد ، فإذا به تكسد بضاعته ، فطاف على حلق مكة ، يقول: يا معشر قريش كيف تأتي المادة إلى بلدكم ؟ وكيف يدخل التجار بلدكم ؟ وكيف يأمن الناس على ما يأتون به من تجارة ، وأنت تظلمون من دخل بلدكم الحرام ، كان يسمعهم هذا لكن الآذان أذان جاهلية ، والأذن الجاهلية إذا ما نصحت فإن صماخها يشكل صخرة متجلطة دون وصول المسموع إليها ! صماخ الأذن إذا ما تصخر معنى ذلك أن في الأذن وقراً- يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام- ما زال يطوف على الحلق حتى وقف على حلقة ، كان فيها- عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- وما ذاك ؟ قال: جئت بأجمال لي  ، هي من أنفس بضاعتي ، جاء عمرو بن هشام- أي: أبا جهل فرعون هذه الأمة- فسامها بالثلث ، لو افترضنا أن الجمل بمئة قال: بعني إياه بثلاثين ، فسامه بالثلث ، فأبى عليه صاحب الأجمال أن يبيعه إياها بذلك ! ربما قال قائل- وهذا خاطر قوي- ما لنا ومال الأجمال ؟ نحن والله لا نتعرف على الأجمال على أنها جمال نتعرف للموقف- يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام- ومن حصر نفسه في الصورة من حيث هي الصورة ، فقد بعد عن الاستفادة من الشاهد، الشاهد الموقف ، أجل سامني فأبى أحد أن يسوم بعده ، هو يخوّف الناس حيث يضع يده على بضاعة ، أو على سلعة ، أو على شركة ، أو على أي أمر من أمور التجارة والصناعة ، فهيهات لأحد أن يقترب منها وإلا أحرقه ، قال: أين هي ؟ قال: هناك في الحزورة- المكان الذي تجتمع فيه البضاعة للبيع- قام- عليه الصلاة والسلام- ومعه أصحابه ، فرأى جمالاً فرهاً نظيفة قوية متينة جميلة ، فساومه عليها حتى أرضاه ، واشترى منه أجماله ، ثلاثة جمال اشتراها- عليه الصلاة والسلام- بالسعر الذي وافق عليه البائع ، فباع الرسول منها جملين بالثمن الذي دفعه للثلاثة ، وربح جملاً ، ثم باعه لكنه أعطى الثمن كله ليتامى عبد المطلب ، هذا هو حبيبكم- عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- هذا من مكارم الأخلاق وما أكثر الأوجه في هذا المشهد الذي عرضناه.

جاء عمرو بن عبس- رضي الله عنه- إلى الرسول- عليه الصلاة والسلام- في بادئ الدعوة ، وعمرو هذا أخو أبي ذر لأمه ، قال : يا رسول الله ! من اتبعك على هذا الأمر؟ قال- عليه الصلاة والسلام- حر وعبد ، قال : يا رسول الله ! ما الإسلام ؟ قال: طيب الكلام ، وإطعام الطعام ، أنت خبير بأن الاسلام هو أن تسلم وجهك لله، الإسلام له أركان : أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة تصوم رمضان تحج البيت ، والجهاد ركن سادس من أركان الإسلام- يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام-  لكن ههنا الرسول- صلى الله عليه وسلم- يقول : الإسلام طيب الكلام ، حدد الإسلام من حيث الثمرة، أطيب الكلام ثمرة المسلم، المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه ، فإذا لم يسلم المسلمون من اليد التي تعتدي وتؤذي ، هذا المؤذي الذي بعد عن الإسلام ، وحقائق الإسلام ، من لم يسلم المسلمون من لسانه ، وما أكثر ألوان الإيذاء باللسان اليوم ! يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام ! وهذا قد بعد عن حقائق الإسلام، الإسلام طيب الكلام وإطعام الطعام ! قال : والإيمان ؟ قال: الإيمان الصبر والسماحة ! الصبر يعطينا القدرة على الامتناع عن المشتهيات الحرام ، والسماحة تدفعنا بطاقة رائعة من أجل أن نطبق شرع الله- تبارك وتعالى- قال: يا رسول الله ! ما أفضل الإسلام ؟ قال : أفضل الإسلام أن يسلم المسلمون من يدك ولسانك ، قال: يا رسول الله ! وما أفضل الإيمان ؟ أجل ما أفضل الإيمان ؟ قال: حسن الخلق ، أفضل الإيمان حسن الخلق قال: وما أفضل الصلاة ؟ قال : طول القنوت ، بمعنى طول القيام أو طول القراءة كما فسره العلماء- رحمهم الله تبارك وتعالى- وما أفضل الهجرة ؟ قال: أن تهجر ما كره ربك !!! بهذي الاسئلة ، وهذه الأجوبة ، وضع- عليه الصلاة والسلام- النقاط على الحروف ، بعد ما أصدر الحروف ، فإذا به يمد في معاني الإسلام على أن الإسلام يشمل كل جوانب الحياة ، ولعل من أهم ركائز الإسلام مكارم الأخلاق.

نبهني الله وإياكم من رقدة الغافلين ، وحشرني وإياكم في زمرة عباده المتقين ، فاستغفروه فيا فوز المستغفرين

الحمد لله ثم الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة وجاهد في الله حق جهاده اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت وسلمت وباركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.

عباد الله ! أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته والإنابة  إليه فإنه قال لنا "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"

أما بعد أمة محمد عليه الصلاة والسلام !

مكارم الأخلاق إنما ترجع إلى المنبت، المنبت هو النفس ، ما النفس أغوار النفس عميقة عميقة قد جبلنا الله- عز وجل- على كثير من الحقائق ، ألا ترى معي بأن النفس فيها الحب والبغض فيها السماحة وفيها المعاقبة ، فيها الرضا وفيها السخط ، فيها الإقبال وفيها الإدبار، فيها الفرح وفيها الترح ، كل هذه الحقائق والمعاني من مكارم الأخلاق ، إنما تجليها سلوكاً عملياً ، لكن على أن ترضى بكل ما يرضى الله- عز وجل- عنه ، وأن تسخط على كل ما يسخط الله- عز وجل- عليه ، أن تفرح بكل إقبال لهذه الأمة على الله- جل جلاله- وأن تحزن بإدبار المدبرين عن شرع الله- تبارك وتعالى- أن تأسى لمآسي المسلمين ، وأن تواسي كل من يمكنك أن تواسيهم من هذه الأمة ، مكارم الأخلاق إنما تتمثل في أقوالك وأفعالك وأحوالك ، مكارم الأخلاق يعني أن تحقق الصفات التي أثنى الله- عز وجل- بها ، أولا على رسوله- عليه الصلاة والسلام- وهو الأسوة الحسنة ، وقد أثنى الله- عز وجل- عليه بقوله "إن الله وملائكته يصلون على النبي" وقلنا الصلاة من الله- عز وجل- ههنا بمعنى الثناء ، ومن أحق بأن يثني على المصطفى- صلى الله عليه وسلم- من الله جل جلاله ، هو الثناء الصادق- يا أمة محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- " قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون" إلى أن قال : "أولئك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس * هم فيها خالدون" ما هذه الصفات ينبغي أن تتتبعها ينبغي أن أحقق نفسي فيها ، وأحققها في نفسي ، حيث تقرأ كتاب الله ينبغي أن أجدك أو تجد نفسك في كل المواطن التي أثنى الله- عز وجل- فيها عمن اتصف بها

أكثروا من الصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله تبارك وتعالى قد أثنى عليه في محكم كتابه بقوله "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً"، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت وسلمت وباركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الصحابة الخلفاء السادة الحنفاء سادتنا وموالينا أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. ربنا اتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار،

نسألك ربنا موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم والفوز بالجنة والنجاة من النار لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرجته ولا غماً إلا كشفته ولا مريضاً إلا شفيته ولا غائباً إلا سلمته ورددته ولا عاص إلا هديته ولا عدو لهذه الأمة إلا قصمته اللهم ربنا إلهنا من أراد بالاسلام والمسلمين خيرا فوفقه لكل خير ومن أراد بالاسلام والمسلمين سوءاً فخذه أخذ عزيز مقتدر

اغفر اللهم لنا ولوالدينا ولمشايخنا ولمن حضر معنا ولمن غاب عنا منا واغفر اللهم لمنشئ هذا المكان المبارك ولمن أعان  فيه بمعروف ابتغاء وجهك الكريم آمين والحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، وأقم الصلاة.